جالساً في شرفتي متأملا البحر الذي تتسابق أمواجه بلا إنقطاع و بكل إصرار كي تتلاقي مع رمال الشاطئ منكسرة عليها ثم تعود فتنحسر الي الاعماق مجدداً في دورة لا متناهية ما بين المد والجزر بفضل تأثير التابع الأرضي الوحيد الذي لم يكله الدوران حول الأرض منذ مليارات السنين.
جلست أتامل ذلك المقهي هناك علي الشاطئ حيث تجلس مجموعة من الشباب يلعبون الدومينو و يقومون برص أوراقه علي المنضدة الموضوعة أمامهم بكل قوة و حماس حتي انهم يكادوا إن يحطموا الاخيرة دون أدني ذنب قد أقترفته سوي ان حظها العاثر قد جعلها المفضلة لديهم، و تري بجانبهم ذلك النادل الذي أخذ في وضع قطع الفحم المشتعل علي حجر الأرجيلة المنقوشة بالالوان الزيتيه حتي تبدأ رائحة التبغ و الذي يحمل نكهة الفاكهة من ان تعم المكان مع الكثير من الدخان الذي يوشك أن يتحول إلى شبورة قد تتسبب في قطع الطريق.
و تري هناك بائع البطاطا المشوية بجواره شخصاً آخر يبيع الذرة المشوية و شخص ثالث يبيع شيئاً آخر لا تدري كنهه لكنه يصر على إن يبيعه لك في إصرار و كأنها ضريبة قد فرضت عليك حين يختارك القدر علي ان تسير في منطقة نفوذ ذلك البائع المتحمس للفتك بك إن لن تقوم بشراء ما لديه دون حتي إن تعرف كنهه او ماذا عليك أن تفعل به حتي.
ثم يخترق حاجز الصوت من حولك صوت حفل موسيقي صاخب منبعث من سيارة مليئة بسماعات الصوت الجديرة بوضعها في احد صالات الديسكو او احد قاعات الافراح لقوة صوتها و نقائه بالإضافة إلي ركابها الذي يقومون بدور الكورال، لكنهم يظنون أن الناس من حولهم قد أصابها نوع من الصمم العصبي المقاوم للأنفجارات الصوتية و التي تخرق حاجز الصوت ذاته.
ذاك هو كورنيش الإسكندرية الحبيبة كما نعرفه دوماً...ذاك الكورنيش الذي شهد أجمل أيام حياتي و أكثرها إنطلاقا و مرحا مع الاصدقاء، اشاهده من جديد شاعراً إنه لي، لي وحدي بذكرياته و صولاته و جوالاته، مع دمعة شوق لم أستطع كتمها إلي تلك الايام السعيدة مع الامل المستحيل في العودة إلى الوراء، العودة إلى التسعينيات، يا حلم.
حسنا، لا بأس من تحضير كوب من الشاي و الاستمتاع بالمشهد من حولك مع وضع ساق علي الأخرة علي سبيل الراحة، فهناك في قريتي مثلاً شعبياً يقول (جلس فوضع العرجاء علي المكسورة)، في إشارة تهكم الي كل من يجلس واضعاً ساق علي الأخرى، لكن لا بأس.
تأملت كوب الشاي الموضوع أمامي و هنا تذكرت الامبراطور الصيني (شين نودج) الذي قام في العام ٢٧٣٢ ق. م. اي قبل نحو خمسة آلاف عام، قام بوضع بضعة أوراق من شجرة الكاميليا الصينية في الماء المغلي و علي اثر ذلك انبعثت رائحة ذكية دفعته إلى شرب السائل الناتج عن غلي الاوراق في الماء فشعر بإن ذلك السائل ينساب متسللاً الي نفسه في خفة و يقوم بفحص كل خلجة من خلجاته فأطلق علي ذلك المشروب ( تشا) بمعني التحقق او التحقيق باللغة الصينية. و من ثم بدأ إطلاق اسم شجرة الشاي علي شجرة الكاميليا الصينية.
لاحقاً و في القرن الرابع الميلادي بدأ الصينيون بإنشاء مزارع ضخمة الأشجار الشاي التي أصبحت تجارته لا تقدر بثمن حتي أنهم من كثرة اهتامهم بتلك المزارع قد جعلوا من يعمل فيها و يقوم بقطف الاوراق فقط من عذاري الفتيات بسبب نقاوتهن و قد أشترطوا عليهن ايضاً ان لا يأكلن البصل او الثوم او اي توابل قوية من أجل عدم تلويث أوراق الشاي او القيام بتغيير رائحتها.
لاحقاً و في القرن التاسع الميلادي وصلت أوراق الشاي الي هضبة التبت عن طريق قوافل (الياك) و التي كانت بدورها تقطع الطريق في زهاء العام الي حيث كان سكان التبت يبرعون في إعداد الشاي خاصتهم. إذ كانوا يقومون بغلي الشاي لمدة نصف الساعة علي الأقل قبل أن يقوموا بتصفيته في أوعية خشبية مستخدمين في ذلك مصفاة مصنوعة من شعر الخيول ثم يقومون بخلطه بالزبد و الملح من اجل تعويض الدهون و الاملاح التي تفقدها اجسادهم في أعالي الهيمالايا بسبب درجات الحرارة المتدنية و نقص الاكسجين الناتج عن الارتفاعات الشاهقة، حتي إن متوسط إستهلاكهم للشاي قد بلغ ٤٠ كوبا يومياً. بل أنهم قد أستعملوه كعملة للتداول و دفع أجور العمال و الخدم في بعض الأحيان.
هذا فيما يتعلق بالشاي الاخضر اما عندما بدأ الصينيون في تصدير الشاي الي في القرن السابع عشر فقد قاموا بتخمير أوارقه من اجل الحفاظ على النكهة و الرائحة، فكان ظهور الشاي الاسود ( الأحمر).
و لقد أمتد ولع الصينيون بالشاي في العصر الحديث إذ قاموا بتأسيس ( معهد شاي شنجهاي) المتخصص في فنون تقديم الشاي، إذ يقوم الدارسين بتقديم اكثر من ١٠٠٠ نوع من أنواع الشاي علي أنغام آلة (Guzhong) الموسيقية الوترية و يقومون بالتحدث بأكثر من لغة بخلاف الصينية من اجل الترفيه عن الضيوف الأجانب. و من الجدير بالذكر أن هناك خمسة و سبعون شخصاً فقط استطاعوا الحصول على شهادة فن الشاي من ذلك المعهد الذي يعود تاريخ تأسيسه الي العام ١٩٩٧.
هذا بالإضافة إلى متنزه (Ten Fu) الوطني و الذي يضم متحف الشاي و يقوم بتقديم عروض عن تقاليد و اساليب شرب الشاي.
قد عرفت اليابان الشاي في القرن التاسع الميلادي عن طريق الراهب البوذي ( دينجيو دايشي) الذي كان في زيارة الي الصين وقتها و أغرم بالشاي فقام بجلبه معه الي اليابان و شرع في استعماله في الدير خاصته من اجل الاستفادة من تأثيره المنبه اثناء القيام بالتأمل.
و بحلول القرن الخامس عشر أقام اليابنون الحفلات من اجل إعداد الشاي و شربه حتي أصبح من اكثر الطقوس التي يحتفي بها الشعب الياباني حتي انهم قد قاموا ببناء أكواخ في حدائق منازلهم مخصصة فقط لشرب الشاي.حتي انك لتجد اثناء زيارتك الي اليابان حالياً (الأيس كريم بطعم الشاي الاخضر).
و من الصين الى روسيا، عندما قام الصينيون بإهداء الشاي الي القيصر الروسي ( مايكل الاول) سليل أسرة ( رومانوڤ) في عام ١٦١٨ ، و الذي أعجب به كثيراً و قرر القيام بإستيراده من الصين عن طريق القوافل و كانت كل قافلة تتكون من ٦٠٠٠ جمل كل منهم يقوم بحمل ٦٠٠ رطل من الشاي. و كانت القوافل تقطع مسافة ١١٠٠٠ ميل في نحو عام و نصف، الي ان حل العام ١٩٠٣ حيث مدت فيه روسيا السكك الحديدية العابرة لسيبريا و التي قامت بدورها بإختصار زمن الرحلة الي اسبوع واحد فقط.
ويلي، لقد برد كوب الشاي اثناء حديثي...لا بأس أصنع واحد آخر...ها هو ذا، ماذا عن السكر!!! نعم ثلاثة معالق تكفي. ارجو ان أتمكن من شرب الشاي بدون سكر يوماً ما من اجل محاولة إنقاص الوزن فلقد أعتزلت رياضة الجمباز بسبب السكر الذي أقوم بوضعه في الشاي. لا بأس فأنا لا احب الجمباز علي اي حال!!!
اين توقفت عن الرواية!!! نعم عند روسيا، فلنتابع قصة إنتشار الشاي حول العالم و لأمارس هوايتي السخيفة في إن أملاء روئسكم بهذا السخف.
عرفت أوروبا ( القارة العجوز) الشاي عام ١٦١٠ عن طريق التجار البرتغاليون و الهولنديون الذين كانوا اول من قام بإستيراد الشاي في اوروبا، و من البرتغال اتتقل الشاي الي إنجلترا في عام ١٦٦٢ حينما قام الملك الانجليزي ( تشارلز الثاني) من الزواج بالإميرة البرتغالية ( كاثرين من براجانرا)، و التي قد تقدم الشاي الي أصدقائها الأرستقراطيون كرمز للرفاهية، إذ إن ثمن رطل الشاي الواحد حينها كان يفوق أجر العامل الانجليزي في شهر كامل.
أما عن شاي الساعة الخامسة الشهير و الذي كان من أستحدثته الدوقة ( آنا) دوقة (بيدفورد) الرابعة في القرن الثامن عشر. حيث ارادت كسر الملل و الجوع ما بين وجبة الإفطار الخفيفة و وجبة العشاء المسائية، فأمرت خدمها بتحضير الشاي و قامت بتناوله مع أصدقائها مع المخبوزات و المرطبات. و بالتالي اضافه طقس آخر الي طقوس البلاط الانجليزي العتيقة و التي أصبح الاقتداء بها أحدي مظاهر الأرستقراطية حول العالم.
اما في القرن التاسع عشر فقد قام احد التجار و يدعي (توماس ليبتون) بوضع الشاي بعناية فائقة في عبوات من اجل بيعها و من ثم إنتشرت العلامة التجارية الشهيرة (ليبتون).
أما عبر الاطلسي فللشاي قصة آخري طريفة...
فعندما كانت أمريكا محتلة من قبل بريطانيا فقد قام البريطانيون بفرض ضريبة تسمي (ضريبة الشاي) علي الشاي المستورد عبر ميناء (بوسطن) و قد بلغ مقدار تلك الضريبة ١١٩٪ من قيمة الشاي نفسه، مما دفع الامريكان يرفضون تلك الضريبة و قاموا بغلق ميناء (بوسطن) وجه شحنات الشاي الواردة، حتي إن الامريكان كانوا قد أعتبروا مقاطعة الشاي من الأعمال الوطنية في ذلك الوقت.
و بالتالي قامت بريطانيا بإرسال قواتها الي ميناء (بوسطن) من اجل فتحه بالقوة امام شحنات الشاي، مما ترتب عليه سلسلة من الاحداث الدموية قادت إلى بداية حرب الاستقلال الامريكيه. نعم لقد قام الشاي حرفياً بتغيير تاريخ العالم!!!
و بعد ذلك قام الامريكان بأمركة الشاي شأنه كشأن اي شئ آخر علي هذا الكوكب يقوموا بإستعماله، فقاموا بصنع الشاي المثلج و أضافوا اليه النكهات في القرن التاسع عشر. إذ يقوم الامريكان بإستهلاك نحو ٥٠ مليار كوب من الشاي المثلج سنوياً مما يمثل ٨٠٪ من إجمالي إستهلاك الشاي في الولايات المتحدة الأمريكية كافة.
و في عام ١٩٠٨ قادت الصدفة أحد التجار الامريكان الي ابتكار أكياس الشاي و التي نقوم بإستخدامها إلي يومنا هذا، فقد أرسل شحنات الشاي الي التجار معبأة في أكياس مصنوعة من الحرير من اجل حفظها، لكنهم قد ظنوا انها طريقة جديدة لتحضير الشاي و قام بغليها كما هي مما نتج عنه تخمر افضل للشاي و طعم مختلف عن الشاي الذي يتم غليه في الماء مباشرة.
و الآن فلأقم برشف رشفة من الشاي قبل ان يبرد كسابقه...مممم انه لذيذ حقا، و الآن ماذا عن انواع الشاي!!!
هناك الشاي الاخضر و هو قليل الكافيين علي عكس الشاي الاسود، و هو يساعد على حرق الدهون و تنظيم السكر و الانسولين في الدم كما انه يحتوي على مادة (الفلوريد) المفيده للأسنان بالإضافة إلى مادة ( التاموكسفين) المستخدمة في علاج بعض انواع السرطان مثل سرطان الثدي.
و اما الشاي الاسود ( الاحمر) يحتوي علي نسبة اعلي من الكافيين بالإضافة إلى مضادات الأكسدة و التي تقوم بتقليل معدلات الإصابة بالسرطان و تأخير ظهور أعراض الشيخوخة.
اما شاي ( أيرل جراي) الشهير فهو مزيج من الشاي الاسود و البرتقال و أوراق شجرة البرجموت، فقد قام البريطانيون بإطلاق اسم رئيس وزرائهم عليه ( أيرل جراي) و الذي حكم بريطانيا في الفترة ما بين العامين ١٨٣٠ و ١٨٤٥.
و هناك ايضاً شاي ( الماتشا) و شاي ( الأولنج) و شاي (بيكو) الصيني الذي لا يتعرض للأكسدة و الشاي البرتقالي ( الهولاندي) و الشاي الذهبي بالإضافة إلى الشاي ( الأبيض) و الذي يعتبر أندر أنواع الشاي علي الإطلاق.
لقد حل الظلام و انا في الشرفة و بدأت اشعر بالأرق و التوتر من كثرة شرب الشاي، الذي قد يؤدي إلي زيادة ضربات القلب وهشاشة العظام و ترسيب الحديد مما قد يتسبب في حدوث انيميا بالدم ( بعيد يا شر علي صحتي).
حسنا، فقد حان الآن موعد الذهاب الى ذلك المقهي علي الشاطئ من اجل لعب الدومينو و إحتساء كوبا آخر من الشاي ، لكن هذه المرة لن يكون شايا عاديا، سوف اقوم بإضافة اوراق النعناع الطازج اليه...الي الشاي.