أَنَا مَرْهَقَةٌ... نَعَمْ، أَنَا حَقًّا مَرْهَقَةٌ...
سَئِمْتُ ذَلِكَ التِّكْرَارَ الَّذِي تَمَكَّنَ مِنْ حَيَاتِي...
سَئِمْتُ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْمُتَشَابِهَةَ إِلَى حَدِّ الْمَلَلِ...
سَئِمْتُ ثَوَانٍ لَمْ تُعْدْ تَعْنِي لِلزَّمَنِ شَيْئًا...
مُنْذُ مَتَى صَارَتِ الْأَيَّامُ مُجَرَّدَ أَرْقَامٍ؟!
مَا لِلزَّمَانِ صَارَ مُبَعْثَرًا بَيْنَ النَّاسِ!
أَنَا لَسْتُ مُنْهَزِمَةً أَوْ ضَعِيفَةً، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ تَمَامًا.
أَعْمَلُ بِوَظِيفَةٍ مَرْمُوقَةٍ يَحْسُدُنِي عَلَيْهَا الْكَثِيرُونَ.
لَدِي أُسْرَةٌ عَرِيقَةٌ، وَرَصِيدٌ فِي الْبَنْكِ يَحْوِي عَدَدًا لَا بَأْسَ بِهِ مِنَ الْأَصْفَارِ،
وَسَيَّارَةٌ بَيْضَاءُ جَمِيلَةٌ... لَوْنِي الْمُفَضَّلُ.
بِنَظَرِهِمْ، أَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ...
بِنَظَرِهِمْ هُمْ...
وَلَكِنْ... مَنْ هُمْ أُولَئِكَ أَصْلًا؟!
إِنَّهُمُ الْمُتَوَاجِدُونَ دَوْمًا فِي الزَّمَكَانِ...
الَّذِينَ خُلِقُوا فَقَطْ لِتَقْيِيمِ الْآخَرِينَ
وَدَسِّ أُنُوفِهِمْ فِي شُؤُونِ الْجَمِيعِ... عَدَا أَنْفُسِهِمْ.
لَكِنْ مَاذَا يُمَثِّلُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ؟!
لَا شَيْءَ... لَا شَيْءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
أَتَذَكَّرُ عِبَارَةً قَرَأْتُهَا يَوْمًا فِي رِوَايَةٍ مَا:
"إِذَا سَقَطَتْ شَجَرَةٌ فِي سِيبِيرِيَا وَلَمْ يَشَاهِدْ سُقُوطَهَا أَحَدٌ،
وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ ارْتِطَامِهَا أَحَدٌ، فَهَلْ أَحْدَثَ سُقُوطُهَا صَوْتًا فِعْلًا؟!"
إِنْ فَهِمْتَ الْمَعْنَى، فَسَتُدْرِكُ مَقْصِدِي...
هُمْ يَقْرُرُونَ أَوْ لَا يَقْرُرُونَ حَسَبَ مَا يَشَاهِدُونَ أَوْ يَسْمَعُونَ.
الشَّجَرَةُ سَقَطَتْ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهَا فَأَنْكَرُوا سُقُوطَهَا.
لِذَلِكَ لَمْ أَعُدْ أَهْتَمُّ بِمَا يَظُنُّ أَوْ يَقُولُ أَيُّ مَخْلُوقٍ خَارِجَ حُدُودِ ذَاتِي.
وَالْآنَ، أَيْنَ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمَشْرُوبُ الْمُحَبَّبُ إِلَى نَفْسِي وَقْتَ الْبَرْدِ الْقَارِسِ؟
الْكَاكَاوُ... هَذَا هُوَ...
مِلْعَقَتَانِ مَعَ قَلِيلٍ مِنَ السُّكَّرِ، يَمْتَزِجَانِ فِي كُوبٍ كَبِيرٍ مِنَ الْحَلِيبِ السَّاخِنِ...
يَا لِلرَّائِحَةِ!
أَشْعُرُ بِالدِّفْءِ يَغْمُرُ أَوْصَالِي قَبْلَ حَتَّى أَنْ تَلْمَسَ شَفَتَايَ سَطْحَ السَّائِلِ الدَّافِئِ...
إِنَّهُ دِيسَمْبَر...
ذَلِكَ الشَّهْرُ الْفَاصِلُ بَيْنَ عَامَيْنِ:
أَحَدُهُمَا يَلْمَلِمُ أَغْرَاضَهُ اسْتِعْدَادًا لِلرَّحِيلِ،
مُفَسِّحًا الْمَجَالَ لِعَامٍ آخَرَ يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْمَغَادَرَةِ مِنْ رَحِمِ الْأَيَّامِ
فِي غُرْفَةِ وِلَادَةِ الزَّمَانِ الْأَبَدِيَّةِ...
قَرِيبَانِ لِلْغَايَةِ، لَكِنَّهُمَا أَبَدَ الدَّهْرِ لَا يَلْتَقِيَانِ...
هَكَذَا حَالِي مَعَ حُلْمِي...
حُلْمِي الَّذِي سَأَدَّخِرُ تَفَاصِيلَهُ لِنَفْسِي... لِنَفْسِي وَحْدِي...
عَسَى أَنْ يَلْتَقِيَ دِيسَمْبَرُ وَيَنَايِرُ يَوْمًا مَا... رُبَّمَا...
لَسْنَا مُعْتَادِينَ عَلَى الْأَمْطَارِ هُنَا فِي جَنُوبِ مِصْرَ بِشَكْلٍ عَامٍّ...
يَا لِلْعَجَبِ! أَمْطَارُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ تَبْدُو وَكَأَنَّهَا أَمْطَارٌ اسْتِوَائِيَّةٌ...
غَزِيرَةٌ حَقًّا، مَصْحُوبَةٌ بِالْبَرْقِ وَالرَّعْدِ فِي مَشْهَدٍ مُذْهِلٍ
أَتَأَمَّلُهُ مِنْ نَافِذَتِي الْمُطِلَّةِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ...
قَدْ خَلَتِ الشَّوَارِعُ مِنَ الْمَارَّةِ غَيْرِ الْمُعْتَادِينَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الطَّقْسِ،
وَأَمْسَتِ الْمَدِينَةُ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا...
غَرِيبٌ هُوَ ذَلِكَ الْكَائِنُ الْمُسَمَّى بِالْإِنْسَانِ...
يَدَّعِي السَّيْطَرَةَ عَلَى مَجْرَيَاتِ الْأُمُورِ، ثُمَّ يَفِرُّ كَالدَّجَاجِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ...
يَتَلَاشَى جَبَرُوتُهُ أَمَامَ مُجَرَّدِ قَطَرَاتِ مَاءٍ...
وَكَأَنَّ الطَّبِيعَةَ تَفْرِضُ سَطْوَتَهَا...
تَتَسَاءَلُ: "لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟"
فَيُجِيبُهَا الْكَوْنُ ذَاتُهُ: "لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ".
حَسَنًا، لَا بَأْسَ بِبَعْضِ النَّوْمِ إِذًا...
فَلَسْتُ مِمَّنْ يَهْتَمُّونَ بِمُتَابَعَةِ هَذَا الْعَرَضِ الْمُتَمَيِّزِ لِلصَّوْتِ وَالضَّوْءِ...
لَكِنْ... أَلَيْسَ الْجَوُّ حَارًّا بَعْضَ الشَّيْءِ لِهَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْعَامِ؟
لَا يَهُمُّ... فَقَدْ فَقَدْتُ شَغَفِي بِهَذَا الْكَاكَاوِ،
وَكُلُّ مَا أَرْغَبُ فِيهِ الْآنَ هُوَ أَنْ أَنَامَ...
أَنَا أَحْلُمُ... إِنَّهُ حُلْمٌ... نَعَمْ، أَنَا أَدْرِكُ هَذَا...
أَعِي جَيِّدًا أَنَّ هَذَا حُلْمٌ... لَكِنْ مَا هَذَا الَّذِي أَرَاهُ؟!
إِنَّهَا قَاعَةٌ صَغِيرَةٌ... شِبْهُ خَاوِيَةٍ،
إِلَّا مِنْ مِنْضَدَةٍ مُرَبَّعَةٍ يَجْلِسُ إِلَيْهَا رَجُلٌ ضَخْمُ الْجُثَّةِ،
يَرْتَدِي جِلْبَابًا أَسْوَدَ، مَلَامِحُهُ صَارِمَةٌ،
أَمَامَهُ لِفَافَةٌ بِهَا طِفْلٌ رَضِيعٌ،
وَشَيْءٌ آخَرُ يُشْبِهُ لَوْحًا خَشَبِيًّا بِجَانِبِ ذَلِكَ الرَّضِيعِ...
لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مُخِيفٌ فِي الْمَشْهَدِ رَغْمَ الْإِضَاءَةِ الْخَافِتَةِ،
سِوَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَا يُلَاحِظُ وُجُودِي... لَا يُلَاحِظُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
هَلْ أَنَا خَائِفَةٌ؟ لَا أَدْرِي حَقًّا...
هَلْ هُوَ حُلْمٌ؟ يَا إِلَهِي!
التَّفَاصِيلُ تَبْدُو حَقِيقِيَّةً أَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ...
هَلْ تَعَرَّضْتُ لِحَالَةِ الْإِسْقَاطِ النَّجْمِيِّ أَثْنَاءَ نَوْمِي؟
أَمْ إِنَّهُ مُجَرَّدُ حُلْمٍ؟ أَمِ...
اخْتَرَقَ حَاجِزَ الصَّمْتِ صَوْتُ ذَلِكَ الرَّجُلِ
وَهُوَ يُحَرِّكُ يَدَيْهِ عَلَى اللَّوْحِ الْخَشَبِيِّ يَتَمْتَمُ:
"تَقَدَّمُوا يَا خَدَّامِ...
تَقَدَّمُوا يَا حُرَّاسَ الْأَرْضِ السُّفْلِيَّةِ...
احْضُرُوا يَا خَدَّامَ بَعْلَزَبُولَ وَنَائِلَةَ...
تَجَلَّوْا يَا خَدَّامَ الْأَعْوَرِ وَشَلْنَقِيلَ...
بِحَقِّ الدَّمِ، احْضُرُوا يَا جُنُودَ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ...
تَقَدَّمُوا يَا خَدَّامَ..."
مَا هَذَا؟! هَلْ هِيَ تَعْوِذَةٌ يُلْقِيهَا هَذَا الرَّجُلُ؟!
لِسَانِي يَعْجِزُ عَنِ النُّطْقِ... الْكَلِمَاتُ مَحْبُوسَةٌ فِي حَلْقِي...
الْقَاعَةُ بَدَأَتْ تَهْتَزُّ... الرَّضِيعُ يَبْكِي... الْحَرَارَةُ تَزْدَادُ...
"تَقَدَّمُوا يَا أَتْبَاعَ مَاعَتَ...
يَا خَدَّامَ الْأَرْضِ السُّفْلَى...
تَجَسَّدُوا يَا حُرَّاسَ دَاسِمَ وَأَعْوَرَ وَمُسَلَّطٍ...
تَقَدَّمُوا يَا عَبِيدَ أَسْمُودِيسَ وَشَاصِرَ وَبَاصِرَ وَالْأَحْقَبِ...
تَجَسَّدُوا يَا حُرَّاسَ الْجَحِيمِ وَالسَّبْعِ أَرَاضِينَ..."
يَا رَبَّ السَّمَاوَاتِ! أَكَادُ أَفْقَدُ الْوَعْيَ مِنْ هَوْلِ الرُّعْبِ...
الرَّضِيعُ يَصْرُخُ بِلا هَوَادَةٍ...
أَشْعُرُ وَكَأَنَّ زِلْزَالًا عَنِيفًا يَشُقُّ الْأَرْضَ تَحْتَ قَدَمَيَّ...
مَا هَذَا الرُّعْبُ؟ أَمَا مِنْ نِهَايَةٍ؟!
يَا إِلَهِي! مَا هَذَا؟!
هُنَاكَ عَلَى تِلْكَ الْمِنْضَدَةِ... بَدَأَ ذَلِكَ الْكَائِنُ يَتَجَسَّدُ...
كَائِنٌ لَهُ جَسَدُ كَبْشٍ عِمْلَاقٍ... مَصْنُوعٌ مِنَ اللهَبِ...
مِنْ قَاعِ الْجَحِيمِ يَتَجَسَّدُ... بِلَوْنِ الْجَحِيمِ ذَاتِهِ... وَلَهُ سَبْعَةُ رُءُوسٍ...
مَا الَّذِي جَاءَ بِي إِلَى هَهُنَا؟!
هَلْ تَمَّ اسْتِدْعَائِي هَهُنَا بِالْخَطَأِ؟
هَلْ أَنَا وَسِيطٌ رُوحِيٌّ؟
أَمْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى قُرْبَانٍ فِي طُقُوسِهِ الشَّيْطَانِيَّةِ؟
اهْرِبِي يَا فَتَاةُ! اهْرِبِي!
يَا إِلَهِي! الرَّضِيعُ!
أَخَذَ الرَّجُلُ الرَّضِيعَ وَرَفَعَهُ فِي الْهَوَاءِ أَمَامَ ذَلِكَ الْمَسْخِ الشَّيْطَانِيِّ،
وَصَرَخَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَهُ سُكَّانُ الْجَحِيمِ:
"آدَمُ... آدَمُ... عَلَيْكُمْ بِآدَمَ...
أَوْقِفُوا حَالَهُ... أَبْدِلُوا حَيَاتَهُ...
اجْعَلُوهُ يَخْسَرُ وَيَخْسَرُ...
أَبْدِلُوا حَالَهُ وَاجْعَلُوهُ يَتَحَيَّرُ...
اجْعَلُوا الْوَحْدَةَ رَفِيقَهُ وَالْفَشَلَ طَرِيقَهُ...
اجْعَلُوا أَهْلَهُ لَا يُطِيقُوهُ وَأَقْرَانَهُ لَا يُرِيدُوهُ...
مَرَضٌ... مَرَضٌ... مَرَضٌ...
حُزْنٌ... حُزْنٌ...
دَمِّرُوا آدَمَ... دَمِّرُوهُ...
بِحَقِّ بَعْلَزَبُولَ وَنَائِلَةَ وَلِيثَ وَالْأَعْوَرِ..."
وَفَجْأَةً...
اسْتَلَّ الرَّجُلُ خِنْجَرًا مَاضِيًا وَحَرَكَةً مُبَاغِتَةً...
ذَبَحَ الرَّضِيعَ! وَتَنَاثَرَتِ الدِّمَاءُ بِلَا رَحْمَةٍ...
وَارْتَفَعَ خُوَارُ ذَلِكَ الْكَائِنِ الشَّيْطَانِيِّ بِشَكْلٍ مُخِيفٍ،
كَأَنَّهُ يَحْمِلُ صَوْتَ اسْتِغَاثَاتِ شَيَاطِينَ تَحْتَرِقُ فِي قَلْبِ الْجَحِيمِ...
اسْتِغَاثَةٌ مِنْ قَلْبِ الْجَحِيمِ...
الْحَرَارَةُ تَرْتَفِعُ بِشَكْلٍ لَا يُطَاقُ...
الْمَكَانُ يَهْتَزُّ بِعُنْفٍ... سَأَفْقَدُ وَعْيِي لَا مَحَالَةَ...
أَيْنَ لِسَانِي الْآنَ؟ أَفْتَقِدُهُ حِينَ أَحْتَاجُهُ...
انْطِقِ! انْطِقِ بِاللهِ عَلَيْكِ!
"بِسْمِ اللهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ...
رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَحْضُرُونِ...
يَا رَبِّ... يَا رَبِّ..."
أَخِيرًا نَطَقْتُ بِهَا...
اللَّعْنَةُ! لَقَدِ انْتَبَهُوا الْآنَ لِوُجُودِي،
وَكَأَنِّي ظَهَرْتُ مِنَ الْعَدَمِ!
أُرَدِّدُ وَأُكَرِّرُ كُلَّ مَا أَحْفَظُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ،
وَأَجْرِي لَا أُرِيدُ مَكَانًا مُحَدَّدًا...
فَقَطْ أَجْرِي... أُطْلِقُ سَاقَيَّ لِلرِّيَاحِ...
وَكَأَنَّ شَيَاطِينَ الْجَحِيمِ تُطَارِدُنِي...
وَكَأَنَّ...
صَرَاخٌ... صَرَاخُ أَلْفِ شَيْطَانٍ...
مَلَايِينُ الشَّيَاطِينِ تَسْتَجِيرُ وَتَتَوَعَّدُ...
النِّيرَانُ تَشْتَعِلُ فِي كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ...
اهْرِبِي! لَا تَلْفِتِي خَلْفَكِ أَبَدًا!
هَذَا الْبَابُ... عَبَرْتُ الْبَابَ...
اللَّيْلُ... يَا لِلْمَنْظَرِ! السَّمَاءُ...
إِنَّهَا حَدِيقَةٌ... حَدِيقَةٌ صَغِيرَةٌ تُحِيطُ بِتِلْكَ الْفِيلَا الْمَلْعُونَةِ...
النِّيرَانُ... أَلْسِنَةُ اللهَبِ تَتَصَاعَدُ فِي كُلِّ مَكَانٍ...
وَأَخِيرًا... الشَّارِعُ...
شَارِعٌ مُظْلِمٌ مَهْجُورٌ خَالٍ مِنَ الْمَارَّةِ...
هُنَاكَ لَافِتَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا اسْمُ الشَّارِعِ...
الْمَطَرُ... الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ...
كُلُّ شَيْءٍ يَبْدُو طَبِيعِيًّا تَمَامًا...
اسْتَيْقِظِي! اسْتَيْقِظِي يَا فَتَاةُ!
ذَلِكَ الشَّخْصُ هُنَاكَ... أَنْتَ! أَنْتَ!
مَاذَا تُرِيدِينَ؟
أَيْنَ أَنَا؟!
أَلَا تُدْرِينَ أَيْنَ أَنْتِ؟
أَيُّ مَدِينَةٍ هَذِهِ؟ أَخْبِرْنِي الْعُنْوَانَ!
إِنَّهَا الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ... الْعُنْوَانُ هُوَ...
ضَوْءُ النَّهَارِ...
اسْتَيْقَظْتُ أَخِيرًا...
يَا إِلَهِي! هَلْ كَانَ هَذَا حُلْمًا؟! وَأَيُّ حُلْمٍ!
أَشْعُرُ وَكَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ حَقِيقِيًّا...
طَبِيعِيًّا أَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ...
الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ... سَأَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ الْعُنْوَانِ...
لَيْسَ مُجَرَّدَ حُلْمٍ...
أَشْعُرُ أَنَّ شَيْئًا مَا يُنَادِينِي...
أَشْعُرُ أَنَّهُ قَدَرِي... فَلْيَكُنْ... إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ...
الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ... الْيَوْمُ التَّالِي...
أَخِيرًا وَصَلَ الْقِطَارُ إِلَى مَحَطَّةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ...
يَا لَهَا مِنْ رِحْلَةٍ...
لَمْ آتِ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي الشِّتَاءِ مِنْ قَبْلُ...
قَبْلَ الْآنِ...
أَشْعُرُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَيَتَبَدَّلُ جَذْرِيًّا بَعْدَ الْآنِ...
مَا زِلْتُ أَتَذَكَّرُ ذَاكَ الْعُنْوَانَ الَّذِي قَالَهُ لِي ذَلِكَ الشَّخْصُ فِي حُلْمِي...
حُلْمِي... هَهَهَهَهَه...
تَاكْسِي!
انْطَلَقَتِ السَّيَّارَةُ تَشُقُّ شَوَارِعَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْمُكْسُوَّةَ بِالْمَطَرِ...
الْكُورْنِيشُ غَيْرُ الْمَزْدَحِمِ...
رَائِحَةُ الذُّرَةِ الشَّامِيَّةِ وَالْبَطَاطَا الْحُلْوَةِ...
رَائِحَةُ الْبَحْرِ... رَائِحَةُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ...
وَرُوَيْدًا رُوَيْدًا ابْتَعَدَتِ السَّيَّارَةُ عَنْ مَرْكَزِ الْمَدِينَةِ
نَحْوَ الضَّوَاحِي... شَوَارِعُ أَكْثَرُ هُدُوءًا...
وَأَكْثَرُ وَحْدَةً... وَأَكْثَرُ ظُلْمَةً...
"هَا قَدْ وَصَلْنَا"
كَانَ هَذَا صَوْتَ السَّائِقِ.
"شُكْرًا... مَعَ السَّلَامَةِ."
نَزَلْتُ مِنَ السَّيَّارَةِ...
رَأَيْتُ الْفِيلَا مَرَّةً أُخْرَى قَاعِدَةً فِي الظَّلَامِ...
تَبًّا! آثَارُ حَرِيقٍ كَبِيرٍ وَاضِحَةٌ عَلَى جُدْرَانِ الْفِيلَا!
هَلْ كَانَ هَذَا حُلْمًا؟!
هُنَاكَ... ضَوْءُ مِصْبَاحٍ صَغِيرٍ...
إِنَّهُ كُشْكٌ صَغِيرٌ عَلَى بُعْدِ بضْعَةِ أَمْتَارٍ...
إِلَى هُنَاكَ...
مَرْحَبًا...
مَرْحَبًا، أَهْلًا بِكِ.
أَخْبِرْنِي رَجَاءً، هَلْ يَعِيشُ أَحَدٌ فِي تِلْكَ الْفِيلَا؟
تِلْكَ الْفِيلَا الْمَلْعُونَةِ؟ أَعُوذُ بِاللهِ!
مَاذَا حَدَثَ؟
كَانَ يَسْكُنُهَا سَاحِرٌ مَلْعُونٌ... دَجَّالٌ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ الْأَسْوَدِ
لِإِيذَاءِ النَّاسِ مُقَابِلَ أَمْوَالٍ طَائِلَةٍ...
كَانَ الْجَمِيعُ يَخَافُونَهُ... حَتَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
أَيَّةُ لَيْلَةٍ؟
يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يُمَارِسُ طُقُوسَهُ الشَّيْطَانِيَّةَ،
وَأَنَّ فَتَاةً حَضَرَتِ الْجَلْسَةَ بِطَرِيقَةٍ مَا وَقَضَتْ عَلَيْهِ...
أَحْرَقَتْهُ وَالْمَكَانَ كُلَّهُ، وَوَضَعَتْ حَدًّا لِذَلِكَ الرُّعْبِ...
قَضَتْ عَلَى الشَّيْطَانِ ذَاتِهِ!
جَدِّي رَوَى لِي هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً.
جَدُّكَ؟! هَلْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ؟
مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ عَامًا.
أَرْبَعُونَ سَنَةً؟!
نَعَمْ... هَلَا تُرِيدِينَ شَيْئًا آخَرَ؟ إِلَى أَيْنَ أَنْتِ ذَاهِبَةٌ؟!
أَخَذَتْنِي الصَّدْمَةُ...
وَمَضَيْتُ أَسِيرُ بِلَا هَدَفٍ... حَتَّى رَأَيْتُهُ...
يَا إِلَهِي! إِنَّهُ هُوَ!
ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي أَعْطَانِي الْعُنْوَانَ فِي الْحُلْمِ!
أَنْتَ! أَنْتَ! أَيُّهَا الرَّجُلُ!
أَهْلًا بِكِ... كُنْتُ فِي انْتِظَارِكِ.
مَاذَا؟! عَمَّ تَتَحَدَّثُ؟ مَنْ أَنْتَ؟
أَنَا... أَنَا مَنْ أَنْقَذْتِيهِ يَوْمَ أَحْرَقْتِ تِلْكَ الْجَلْسَةَ الشَّيْطَانِيَّةَ...
أَنَا مَنْ أَرَادُوا بِيَ الشَّرَّ...
أَنْتِ مَنْ أَنْقَذْتِنِي دُونَ مَوْعِدٍ... دُونَ تَرْتِيبٍ...
أَنَا... أَنَا آدَمُ...
يَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ! مَاذَا يَجْرِي؟
خُذِي هَذَا رَجَاءً...
وَوَضَعَ آدَمُ شَيْئًا فِي يَدِي...
إِنَّهَا زَهْرَةٌ... زَهْرَةٌ حَمْرَاءُ جَمِيلَةٌ...
وَرْدَةٌ جَوْرِيَّةٌ...
نَظَرْتُ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى لِأَتَأَمَّلَهُ... لِأَسْأَلَهُ...
وَ... اخْتَفَى...
الصَّبَاحُ...
غُرْفَتِي...
مَنْزِلِي...
هَلْ كَانَ كُلُّ هَذَا مُجَرَّدَ حُلْمٍ؟
يَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ! آدَمُ... الْوَرْدَةُ الْجَوْرِيَّةُ...
يَدَايَ!
لَا... لَا... لَا شَيْءَ فِي يَدَيَّ...
لَمْ أَجِدْ تِلْكَ الْوَرْدَةَ...
إِنَّهَا الْحَيَاةُ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى رِوَايَاتِ فِيكْتُور هُوجُو
صَاحِبِ مَقُولَةِ:
"لَوْ أَنَّكَ حَلُمْتَ أَنَّكَ فِي الْجَنَّةِ وَقَطَفْتَ زَهْرَةً،
ثُمَّ اسْتَيْقَظْتَ وَوَجَدْتَ تِلْكَ الزَّهْرَةَ فِي يَدِكَ –
آهٍ، فَمَاذَا بَعْدَ ذَلِكَ؟!"
يَا لَهُ مِنْ حُلْمٍ... يَا لَهُ مِنْ حُلْمٍ...
جَرَسُ الْهَاتِفِ...
آلُو؟
مَرْحَبًا، أَنَا مَنْدُوبُ شَرِكَةِ شَحْنٍ... لَدَيَّ طَرْدٌ لَكِ.
مِنَ الْمُرْسِلِ؟
لَا أَدْرِي... لَمْ يُرِدْ ذِكْرَ اسْمِهِ.
أَيْنَ أَنْتَ الْآنَ؟
أَنَا أَسْفَلَ الْبِنَايَةِ.
هَلْ تَصْعَدُ رَجَاءً؟
بِالتَّأْكِيدِ... إِلَى أَيِّ طَابِقٍ؟
الطَّابِقُ الرَّابِعُ، شَقَّةٌ 9.
حَسَنًا، سَأَكُونُ عِنْدَكِ حَالًا.
اسْتَلَمْتُ الطَّرْدَ...
لَسْتُ مُعْتَادَةً عَلَى تَلَقِّي طُرُودٍ مِنْ مَجْهُولِينَ...
مَاذَا فِيهِ؟ إِنَّهُ خَفِيفُ الْوَزْنِ...
لَيْسَ قُنْبُلَةً عَلَى الْأَرْجَحِ – هههه –
لَمْ أُؤْذِ أَحَدًا كَيْ يُرْسِلَ لِي قُنْبُلَةً!
وَالْآنَ... مَاذَا لَدَيْنَا؟
هُنَاكَ وَرَقَةٌ وَلِفَافَةٌ صَغِيرَةٌ أَنِيقَةٌ...
سَأَفْتَحُ الْوَرَقَةَ...
يَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ!
عِبَارَةٌ وَاحِدَةٌ مَكْتُوبَةٌ:
"صَغِيرَتِي، قَدْ رَأَيْتُكِ فِي حُلْمِي...
إِلَى أَنْ نَلْتَقِيَ... آدَمُ."
مَاذَا؟!
أَشْعُرُ بِانْعِدَامِ الْوَزْنِ!
آدَمُ! آدَمُ! مَنْ تَكُونُ يَا آدَمُ؟
هَلْ كَانَ ذَلِكَ حُلْمًا؟
لَكِنْ مَاذَا عَنْ تِلْكَ اللَّفَافَةِ يَا تُرَى؟! مَاذَا بِهَا؟!
إِنَّهَا تِلْكَ الْوَرْدَةُ...
الْوَرْدَةُ الْجَوْرِيَّةُ... لَمْ تَذْبُلْ، وَكَأَنَّهَا قُطِفَتْ لِلتَّوِّ مِنْ جَنَّةٍ مَفْقُودَةٍ.
وَإِلَى جَانِبِهَا... خَاتِمٌ فِضِّيٌّ قَدِيمٌ مُزَخْرَفٌ بِرُمُوزٍ غَامِضَةٍ،
كَأَنَّهُ مِنْ عَالَمٍ آخَرَ.
لِمَاذَا أَشْعُرُ بِأَنِّي أَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ؟
كَأَنَّنَا الْتَقَيْنَا فِي حَيَاةٍ أُخْرَى،
أَوْ فِي كِتَابٍ قَدِيمٍ نَسِيتُ عُنْوَانَهُ...
أَرْبَعُونَ عَاماً...
كَمْ هُوَ غَرِيبٌ أَنْ يَكُونَ حُلْمِي جِسْراً بَيْنَ مَاضٍ لَمْ أَعِشْهُ،
وَحَاضِرٍ لَمْ أَفْعَلْهُ بَعْدُ...
وَبَيْنَمَا أَغْلِقُ الْبَابَ، سَمِعْتُ هَمْساً خَفِيفاً:
"لَمْ تَنْتَهِ الْقِصَّةُ بَعْدُ..."