حلق مع هدهوديات في الفضاء السيبراني

recent
أخبار ساخنة

الطابق الرابع شقة 9: مدينة الظلال

الصفحة الرئيسية


 


لَمْ تَعُدْ مَجَرَّدَ أَرْقَامٍ عَلَى بَابٍ، بَلْ صَارَتْ وَطَنًا لِأَسْئِلَةٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى.

الوَرْدَةُ الجَوْرِيَّةُ عَلَى مِدْرَجَةِ نُورِ القَمَرِ، تَتَأَمَّلُنِي بِعُيُونٍ مِنْ نَسِيجِ الغَيْبِ، كَأَنَّهَا عَيْنُ القَدَرِ نَفْسِهِ تَرْمُقُنِي بِوَلَهٍ وَاشْتِيَاق.

"هَلْ أَنَا مُسَافِرَةٌ إِلَى مَجْهُولٍ أَمْ أَهْرُبُ مِنْ حَقِيقَةٍ لَا أَسْتَطِيعُ مُوَاجَهَتَهَا؟" أَتَسَاءَلُ وَأَنَا أُحَاذِرُ نَفْسِي.

"لَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّنِي أَعْرِفُ مَنْ أَنَا، وَالآنَ أَجِدُنِي أَضَعُ قَدَمِي عَلَى أَرْضٍ لَا تَشْبَهُ شَيْئًا مِمَّا عَرَفْتُ."

الخَاتَمُ الفِضِّيُّ يَشْتَعِلُ بِلَونٍ بَنَفْسَجِيٍّ غَامِضٍ، فَتَجْلِبُنِي نَحْوَ نَافِذَةِ شَقَّتِي.

الإسْكَنْدَرِيَّةُ تَسْتَقْبِلُنِي بِلُغْزٍ جَدِيدٍ. الشَّتَاءُ يَلْفُّ المَدِينَةَ بِعَبَاءَةٍ رَطْبَةٍ، وَالمَطَرُ يَنْزِلُ بِرِقَّةٍ عَلَى شَوَارِعِهَا المُعَتَّقَة، فَيَصْبُغُهَا بِلمَعَانٍ فِضِّيٍّ تَحْتَ ضَوْءِ القَمَر.

"يَا لَهَ مِنْ مَنْظَرٍ! كَأَنَّ المَدِينَةَ تَبْكِي دُمُوعًا مِنْ فِضَّةٍ عَلَى ذَاكِرَةٍ طَوِيلَةٍ." أَهْمُ بِصَوْتٍ خَافِت.

أَرَى الأَمْوَاجَ تَصْطَدِمُ بِصُخُورِ الكُورْنِيش، وَرَائِحَةُ البَحْرِ المَمْزُوجَةُ بِعَبِيرِ الأَمْطَارِ تَمْلَأُ الجَو.

شَجَرَاتُ النَّخِيلِ تَتَأَرْجَحُ كَعَرَائِسَ فِضَّةٍ فِي رَقْصَةٍ صَامِتَةٍ مَعَ الرِّيح.

الخَاتَمُ يُرِشدُنِي، يَجْذِبُني نَحْوَ مَقْهَى قَدِيمٍ دَاخِلَ مَبْنَى تَارِيخِيّ.

لَافَتَةٌ خَشَبِيَّةٌ بَاهِتَةٌ تُشِيرُ إِلَى "مَقْهَى الأَسْرَارِ".

دَاخِلًا، الرَّائِحَةُ تَخْتَلِف. عِطْرُ القَهْوَةِ يَمْتَزِجُ مَعَ رَائِحَةِ الكُتُبِ القَدِيمَةِ وَالخَشَبِ المُعَتَّق.

"مَنْ هُوَ هَذَا العَجُوز؟ وَكَيْفَ يَعْرِفُنِي؟" أَتَسَاءَلُ فِي سِرِّي.

"هَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْ هَذَا اللَّغْزِ أَمْ مُجَرَّدُ دَلِيلٍ عَبْرَ هَذِهِ المَمْلَكَةِ الغَامِضَةِ؟"

رَجُلٌ عَجُوزٌ يَجْلِسُ خَلْفَ دَفَّتَيْنِ مِنَ الكُتُبِ، يَنْظُرُ إِلَيَّ بِعَيْنَيْنِ تَحْمِلَانِ قِصَصَ قُرُونٍ.

"أَهْلًا بِابْنَةِ الوَرْدَةِ..." يَقُولُ بِصَوْتٍ وَدِيعٍ يَمْتَزِجُ مَعَ خَفَقَانِ المَطَرِ خَارِجًا.

"كَيْفَ عَلِمْتَ؟ وَمَا هَذِهِ الوَرْدَةُ الَّتِي تَتَكَلَّمُ عَنْهَا؟" أَسْأَلُ وَأَنَا أَحِسُّ بِخَفْقَانِ قَلْبِي يَتَسَارَعُ.

يُشِيرُ إِلَى الخَاتَمِ فِي يَدِي بَاسْمٍ.

"هَذَا خَاتَمُ نِيسَانَ، خَاتَمُ الحَارِسِ الأَبَدِيِّ. وَأَمَّا الوَرْدَةُ..."

يَتَوَقَّفُ بِاسْمٍ، كَأَنَّهُ يَسْتَجْمِعُ ذِكْرَيَاتٍ بَعِيدَة.

"هِيَ قَلْبُ الحَكَايَةِ الَّتِي طَالَمَا انْتَظَرْنَاهَا."

يَقُودُنِي إِلَى غُرْفَةٍ خَلْفِيَّةٍ تَضِجُّ بِخَرَائِطَ فَلَكِيَّةٍ وَكُتُبٍ نَادِرَةٍ.

"آدَمُ..." يَهْمُ بِصَوْتٍ خَافِت.

"لَيْسَ مَا تَظُنِّين. لَمْ يَكُنْ قَطًّا شَرِّيرًا وَلَا طَاهِرًا. إِنَّمَا هُوَ الجِسْرُ بَيْنَ العَالَمِينَ، الجِسْرُ الَّذِي انْكَسَرَ قَبْلَ أَنْ يَعْبُرَهُ أَحَد."

يُعْطِينِي كِتَابًا قَدِيمًا.

"مُذَكَّرَاتُ الحَارِسِ الأَوَّل. فِيهَا بَعْضُ الأَجْوِبَةِ، وَالكَثِيرُ مِنَ الأَسْئِلَةِ الَّتِي طَالَمَا حَيّرَتْه."

أَتَصَفَّحُ الكِتَابَ، وَأَجِدُ صُورَةً لِرَجُلٍ يُشْبِهُ آدَمَ إِلَى حَدٍّ مُرْعِب.

تَحْتَهَا كُتِبَ:

"كَمْ بَيْنَ الحُلْمِ وَالحَقِيقَةِ خُطُوَةٌ = وَبَيْنَ المَوْتِ وَالحَيَاةِ انْتِقَالةْ

أَنَا الْتِقْيُ بِالَّذِي لَمْ أَعْرِفْهُ = وَأَفْقِدُ الَّذِي خُلِقْتُ لِأَجْلِهِ"

"مَا الَّذِي يَعْنِيهِ كُلُّ هَذَا؟" أَسْأَلُ وَصَوْتِي يَكَادُ يَخْنُقُنِي.

يَقُطِّعُ العَجُوزُ تَأَمُّلِي بِهَزَّةِ رَأْس.

"هُنَاكَ مَكَانٌ آخَر، مَكَانٌ لَمْ تَرَاهُ عَيْنٌ بَشَرِيَّة. هُنَاكَ يَجِبُ أَنْ تَذْهَبِي لِتَفْهَمِي."

يُعْطِينِي خَرِيطَةً غَرِيبَة، رُسُومُهَا تَتَحَرَّكُ كَأَنَّهَا تَنْبِضُ بِالحَيَاة.

"خَرِيطَةُ الأبعَادِ السَّبْعَة. بِهَا تَسْتَطِيعِينَ الوُصُولَ إِلَى مَدِينَةِ الظِّلَال، المَدِينَةِ الَّتِي لَا تَرَى الشَّمْسَ إِلَّا مِنْ خِلَالِ أَحْلَامِ أَطْفَالِهَا."

أَخْرُجُ مِنَ المَقْهَى وَأَنَا أَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيَّ أَسْرَارًا قَد تَكُونُ أَثْقَلَ مِنْ جِبَالِ السَّمَاء.

المَطَرُ يَتَسَاقَطُ بِرِقَّة، كَأَنَّهُ يَغْسِلُ أَثَرَ قَدَمَيَّ خَلْفِي.

"هَلْ أَنَا مُسْتَعِدَّةٌ لِمَا سَأَجِدُ؟" أَتَسَاءَلُ وَأَنَا أَمْشِي فِي شَوَارِعَ الإسْكَنْدَرِيَّةِ الخَالِيَة.

الخَرِيطَةُ تَقُودُنِي إِلَى مَعْمَلٍ كِيمْيَائِيٍّ تَارِيخِيّ.

الخَاتَمُ يُضِيءُ بِشِدَّة، وَالبَابُ يَنْفَتِحُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.

دَاخِلًا، العَالَمُ يَنْقَلِبُ رَأْسًا عَلَى عَقِب.

الأَجْسَامُ تَطِير، وَالأَزْمِنَةُ تَتَدَاخَل.

رَجُلٌ يَقِفُ مُحَاطًا بِأَدَوَاتٍ غَرِيبَة، يَلْبَسُ قِنَاعًا فِضِّيًّا.

"جِئْتِ... أَخِيرًا..." يَقُولُ بِصَوْتٍ آليٍّ غَرِيب.

"لَقَدْ حَانَ الوَقْتُ لِتَعْرِفِي الحَقِيقَة."

يُرِيني آلَةً عَجِيبَة.

"هَذِهِ آلةُ الزَّمَانِ النَّاقِص. بِهَا يُمْكِنُ رُؤْيَةُ المَاضِي، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ."

يَضَعُ الخَاتَمَ فِي وَسَطِهَا، فَتَبْدَأُ المَشَاهِدُ فِي العَرْض.

أَرَى المَدِينَةَ قَبْلَ أَرْبَعِينَ عَامًا.

أَرَى السَّاحِرَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَكْلِهِ المُرْعِب، بَلْ بِهَيْئَةِ عَالِمٍ مُحَاصَرٍ بِأَحْزَانِهِ.

يَكْتُبُ فِي كِتَاب:

"أَيُّهَا الحُزْنُ الكَبِيرُ فِي صَدْرِي = كَمْ أَشْبَهْتُ طِفْلًا فِي الظَّلْمَةْ

أَسْأَلُ الوَجْدَ وَالشُّؤُونَ = هَلْ فِي القَلْبِ غَيْرُكُمْ سَكَنَةْ"

ثُمَّ أَرَى شَخْصًا آخَر، شَخْصًا مُقَنَّعًا يَدْخُلُ عَلَيْهِ، يُعْطِيهِ كِتَابًا أَسْوَد: كِتَابَ "شَلْنَقِيل".

السَّاحِرُ يَرْفُضُ فِي البِدايَة، ثُمَّ يَسْقُطُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّ قُوَّةً خَفِيَّةً أَجْبَرَتْهُ عَلَى الطَّاعَة.

الفِيلْمُ يَنْقَطِع، وَالصَّوْتُ يَعُود.

"السَّاحِرُ لَمْ يَكُنْ سُوَى دُمْيَة. دُمْيَةٍ فِي يَدِ قُوَّةٍ أَقْوَى. قُوَّةٍ لَا تَزَالُ حَيَّةً إِلَى اليَوْم."

"مَنْ هُوَ؟" أَصْرُخُ وَأَنَا أَحِسُّ بِالْغَثَيَان.

"مَجْمُوعَةُ الأَسْنَان. هُمْ مَنْ يَتَحَكَّمُونَ فِي خُيُوطِ المَصِير. يَسْكُنُونَ فِي المَدِينَةِ المَنْسِيَّة، مَدِينَةِ ظِلِّ الإسْكَنْدَرِيَّة."

يُعْطِينِي قِنَاعًا فِضِّيًّا.

"خُذِيه. فَبِدُونِهِ لَنْ تَسْتَطِيعِي دُخُولَ مَدِينَتِهِم."

أَخْرُجُ مِنَ المَعْمَل، وَالعَالَمُ حَوْلِي لَمْ يَعُدْ نَفْسَهُ.

الأَصْوَاتُ تَأْتِي مِنْ كُلِّ الاتِّجَاهَات.

أَسْمَعُ هَمْسًا:

"هِيَ الَّتِي انْتَظَرْنَاهَا... هِيَ الحَارِسَةُ الجَدِيدَة..."

الخَرِيطَةُ تَقُودُنِي إِلَى مَبْنَى قَدِيمٍ بِلَا أَبْوَابٍ وَلَا نَوَافِذ.

الخَاتَمُ يَفْتَحُ لِي جِدَارًا خَفِيًّا.

أَدْخُلُ إِلَى مَمَرٍّ مُظْلِم، فِي نِهَايَتِهِ بَابٌ مِنَ النُّور.

أَدْخُل، فَأَجِدُ نَفْسِي فِي مَدِينَةٍ مُرْعِبَةٍ الجَمَال.

مَدِينَةٍ كُلُّ شَيْءٍ فِيهَا مِنْ ضَوْء، لَكِنْ ضَوْءٍ بَارِدٍ مُقْفِر.

شَخَاصِيط بِلَا وُجُوهٍ تَتَجَوَّلُ فِي الشَّوَارِع، تُشْبِهُ ظِلَالًا مِنْ فِضَّة.

لَا أَحَدَ يَلْتَفِتُ إِلَي، كَأَنَّنِي شَبَحٌ بَيْنَ الأَشْبَاح.

فَجْأَة، يَقْتَرِبُ مِنِّي شَبَحٌ أَزْرَق.

يُشِيرُ نَحْوَ مَبْنَى عَالٍ فِي الوَسَط.

"هَنَاكَ... هُنَاكَ تَجِدِينَهُ..." يَهْمِسُ بِصَوْتٍ كَالرِّيح.

أَدْخُلُ المَبْنَى، أَجِدُ غُرْفَةً كَبِيرَة.

فِيهَا عَرْشٌ مِنْ بِلُّور، وَعَلَيْهِ يَجْلِسُ رَجُلٌ يَلْبَسُ قِنَاعًا ذَهَبِيًّا.

"أَهْلًا بِالحَارِسَةِ الجَدِيدَة... لَقَدِ انْتَظَرْنَاكِ طَوِيلًا."

"مَنْ أَنْتُمْ؟" أَسْأَلُ وَأَنَا أَحِسُّ أَنَّ الزَّمَنَ قَدْ تَوَقَّف.

"نَحْنُ الأَسْنَان. نَحْنُ مَنْ نَحْفَظُ التَّوَازُنَ بَيْنَ العَالَمِينَ."

يُنْزِعُ قِنَاعَهُ، فَأَرَى وَجْهًا يُشْبِهُ وَجْهِي إِلَى حَدٍّ مُرْعِب.

"أَنْتِ... أَنْتِ أَحَدُنَا. رُوحُكِ مِنْ رُوحِ هَذِهِ المَدِينَة."

يُشِيرُ نَحْوَ المِرْآة، فَأَرَى نَفْسِي، لَكِنْ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى، هَيْئَةِ أَمِيرَةٍ عَلَى مَدِينَةِ الضَّوْء.

"لَقَدْ جِئْتِ إِلَى بَيْتِك. إِلَى حَيْثُ تَنْتَمِي رُوحُك."

أَرْتَدُّ إِلَى الوَرَاء.

"لَا... لَسْتُ أَنْتُمْ..." أَصْرُخُ وَأَنَا أَحِسُّ أَنَّنِي أَفْقِدُ نَفْسِي.

يَضْحَكُ ضَحِكًا مُرْعِبًا.

"الكِتَاب... أَعْطُونِي كِتَابَ الحَارِس..." يَمُدُّ يَدَهُ نَحْوِي.

أَرْكُض، أَرْكُضُ دُونَ اتِّجَاهٍ فِي مَدِينَةِ الضَّوْءِ البَارِد.

الشَّبَحُ الأَزْرَقُ يَقُودُنِي إِلَى بَابٍ خَفِيّ.

"اهْرُبِي... قَبْلَ أَنْ يُمْسِكُوكِ..." يَهْمِسُ وَيَفْتَحُ البَاب.

أَسْقُطُ فِي نَهْرٍ مِنَ الظُّلْمَة، حَتَّى أَسْتَيْقِظَ فِي غُرْفَتِي: الطَّابِقُ الرَّابع، شَقَّةٌ 9.

هَلْ كَانَ حُلْمًا؟ أَمْ سَفَرًا بَيْنَ الأَعَالِم؟

أَنْظُرُ نَحْوَ يَدِي، القِنَاعُ الفِضِّيُّ مَا زَالَ مُمْسَكًا بِي، وَالكِتَابُ بَيْنَ يَدَي.

عَلَى أَوْرَاقِهِ، كُتِبَ بِخَطٍّ أَحْمَر:

"لَنْ تَنْتَهِي اللعبة بهذه السهولة... فأنتِ الآن في عالمنا... وسنأتي إليكِ..."

أَسْمَعُ خُطُوْتًا عَلَى السُّلَّم، خُطُوْتًا ثَقِيلَة، تَقْتَرِبُ مِنْ بَابِ شَقَّتِي.

الوَرْدَةُ تَذْبُلُ فَجْأَة، وَتَسْقُطُ أَوْرَاقُهَا كَدُمُوعٍ حَمْرَاء.

الخَاتَمُ يُضِيءُ بِلَونٍ أَحْمَرَ دَام.

البَابُ يَبْدَأُ فِي الاهْتِزَاز.

...ثُمَّ تَأْتِي اللَحْظَةُ المُنْتَظَرَة

هَذِهِ المَرَّةَ لَيْسَت كَأَي مَرَّة.

فَالوَرْدَةُ الجَوْرِيَّةُ عَلَى طَاوِلَتِي لَا تَزَالُ تُرَقْرِقُ بِنَدَاهَا الغَامِض، كَأَنَّهَا قَلْبٌ نَابِضٌ يَحْمِلُ بَيْنَ طَيَّاتِهِ أَسْرَارَ العَالَمِينَ.

الأَبْيَاتُ تَتَدَافَعُ فِي رَأْسِي:

"يَا أُخْتُ الوَرْدِ وَالأَسْرَارِ = أَنْتِ النَّدَى وَأَنَا الإِشْتِيَاقْ

حِينَ تَلْتَقِي الأَجْيَالُ = تَبْقَى الحَكَايَةُ بِلَا انْتِهَاقْ"

كَأَنَّهَا نَبْرَةُ نَغَمٍ قَدِيمٍ يَسْكُنُ أَعْمَاقَ رُوحِي.

الخَاتَمُ الفِضِّيُّ يَرْتَعِشُ عَلَى إِصْبِعِي، يُنْبِئُنِي بِقُرْبِ لِقَاءٍ لَا يَشِبُهُ أَي لِقَاء.

اللَّيْلُ عَلَى الإسْكَنْدَرِيَّةِ، البَحْرُ يُرَتِّلُ أُنْشُودَةَ الأَبَدِيَّةِ، وَأَنَا أَسِيرُ فِي شَوَارِعَ خَالِيَةٍ، كَأَنَّ المَدِينَةَ تَفَرَّغَتْ لِهَذَا اللِّقَاءِ الخَاصّ.

فَجْأَةً، رَائِحَةُ اليَاسَمِينِ تَمْتَلِئُ الجَوَّ، رَائِحَةٌ لَمْ أَعْهَدْهَا فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ.

الخَاتَمُ يُضِيءُ بِضَوْءٍ ذَهَبِيٍّ دَافِئٍ، وَصَوْتٌ وَدِيعٌ يَأْتِينِي مِنْ خَلْفِي:

"أَخِيرًا..."

أَدُورُ بِبُطْءٍ، وَهُنَاكَ يَكُونُ آدَمُ، وَاقِفًا بِهَيْئَةٍ أَجْمَلَ مِمَّا تَخَيَّلْتُ، لَيْسَ شَبَحًا وَلَا إِنْسًا، بَلْ نُورٌ يَتَجَسَّدُ فِي صُورَةِ بَشَر.

"آدَم..." تَخْرُجُ كَلِمَتِي وَأَنَا أَحِسُّ بِالدُّنْيَا تَدُورُ حَوْلِي.

يَبْتَسِمُ ابْتِسَامَةً تَمْحُو سَنَوَاتِ الأَلَمِ:

"نَعَمْ... أَنَا آدَمُ... الَّذِي خَلَّصْتِنِي مِنْ سَجْنِي الأَبَدِيِّ..."

يَقْتَرِبُ مِنِّي بِبُطْءٍ، كَأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ أَتَطَايَرُ كَالْحُلْمِ:

"شُكْرًا لَكِ... شُكْرًا لِهَذِهِ الرُّوحِ الشُّجَاعَةِ الَّتِي لَمْ تَخَفْ مِنْ مَجْهُولٍ..."

يَمُدُّ يَدَهُ وَيَلْمُسُ الوَرْدَةَ الجَوْرِيَّةَ، فَتَشْتَعِلُ بِضَوْءٍ أَحْمَرَ دَافِئٍ:

"هَذِهِ الوَرْدَةُ... كَانَتْ قَلْبِي... قَلْبِي الَّذِي تَرَكْتُهُ لَكِ كَالعَهْدِ..."

أَحِسُّ بِدُمُوعٍ تَتَدَفَّقُ مِنْ عَيْنِي، دُمُوعٌ لَيْسَتْ مِنْ حُزْنٍ، بَلْ مِنْ فَرَحٍ لَا أَسْتَطِيعُ وَصْفَهُ.

"يَا مَنْ مَلَأَتِ الدُّنْيَا جَمَالًا = وَرَدَتِّي وَرْدَةً فِي الأيَامْ

أَنْتِ الحَدِيثُ الَّذِي لَا يَمَلُّ = وَأَنْتِ فِي قَلْبِي كَالأَحْلَامْ"

يَتَكَلَّمُ وَكَلِمَاتُهُ تُغَطِّينِي كَالشَّالِ الدَّافِئِ:

"لَكِنَّنِي... لَنْ أَسْتَطِيعَ البَقَاءَ الآنَ..."

يَقُولُ وَفِي عَيْنَيْهِ حُزْنٌ حَلُوٌ:

"لِمَاذَا؟" أَسْأَلُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الجَوَابَ سَيَكُونُ أَعْظَمَ مِنِّي.

"لأَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَحِنْ بَعْدُ... أَنَا لَسْتُ إِلَّا جِسْرًا بَيْنَ عَالَمِكِ وَالعَالَمِ الآخَرِ... وَالجِسْرُ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى سَلِيمًا لِوَقْتِهِ..."

يَأْخُذُ يَدِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَحِسُّ بِدَفْءٍ يَمْلَأُ كِيَانِي:

"انْظُرِي..." يُشِيرُ نَحْوَ البَحْرِ، فَإِذَا بِالمِيَاهِ تَتَحَوَّلُ إِلَى مِرْآةٍ عَظِيمَةٍ.

تَظْهَرُ فِيهَا صُوَرٌ: صُورَةُ القَادِمِ، أَيَّامٌ جَمِيلَةٌ، ضَحِكَاتٌ، وَعُهُودٌ، وَأَنَا وَهُوَ مَعًا.

"هَذَا هُوَ القَادِمُ... لَنْ أَكُونَ بَعِيدًا عَنْكِ... بَلْ سَأَكُونُ فِي كُلِّ نَبْضَةِ حَيَاةٍ تُدِقُّ فِي هَذِهِ المَدِينَةِ..."

يَضَعُ الخَاتَمَ فِي يَدِي:

"هَذَا الخَاتَمُ... لَيْسَ مِفْتَاحًا لِبَابٍ... بَلْ هُوَ قَلْبِي... قَلْبِي الَّذِي سَيَبْقَى مَعَكِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ اليَوْمُ المَوْعُودُ..."

يَقْتَرِبُ مِنِّي أَكْثَر، حَتَّى أَسْمَعَ نَبَضَاتِ قَلْبِهِ:

"الثَّمَرَةُ الحُلْوَةُ تَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ... وَالعُهُودُ الجَمِيلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى انْتِظَارٍ..."

يَتَلاشَى بِبُطْءٍ، مُتَحَوِّلًا إِلَى نَدَى عَلَى وَجْنَتَيَّ، وَصَوْتُهُ يَأْتِينِي كَالرِّيحِ:

"إِلَى اللِّقَاءِ يَا حَبِيبَةَ القَلْبِ = سَأَعُودُ وَتَكْتَسِي الدُّنْيَا بِالزَّهْرْ

وَتَرَوْحُ الأَيَّامُ وَهِيَ تَضْحَكُ = لِقَاءٍ يُجَمِّلُهُ الحُبُّ وَالفَخْرْ"

أَبْقَى وَاقِفَةً، أَحِسُّ بِالفَرَحِ يَمْلَأُ كِيَانِي.

الخَاتَمُ يُضِيءُ بِضَوْءٍ وَرِدِيٍّ، وَأَعْلَمُ أَنَّ قَلْبَهُ مَعِي.

الغَدُ لَا يَحْمِلُ خَوْفًا، بَلْ يَحْمِلُ وَعْدًا، وَعْدًا بِلِقَاءٍ أَجْمَلَ، بِحَبٍّ أَعْظَمَ، وَبِقِصَّةٍ لَنْ تَنْتَهِي.

أَرْفَعُ رَأْسِي نَحْوَ السَّمَاءِ، وَأَبْتَسِمُ، لأَنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّ الفَجْرَ القَادِمَ سَيَحْمِلُ بَيْنَ طَيَّاتِهِ بِشَارَةَ لِقَاءٍ لَا يَنْتَهِي...

وَالبَابُ يَظَلُّ يَهْتَزُّ بِنَعْمَةٍ، كَأَنَّهُ يُرَقْصُ عَلَى نَغَمَةِ قَلْبَيْنِ اخْتَلَطَا فِي أُغْنُوتَةِ الخُلُود..


google-playkhamsatmostaqltradent