حلق مع هدهوديات في الفضاء السيبراني

recent
أخبار ساخنة

الطابق الرابع شقة 9: رسالة من بعد آخر

الصفحة الرئيسية


 

لازلتُ أتطلَّعُ عبرَ شرفتي المُطِلَّةِ على النيلِ، كلَّ ليلةٍ أرى في رقرقةِ الماءِ الآتيةِ من قلبِ القارةِ أمواجَ البحرِ تذوبُ على شواطئ الإسكندرية... أستشعِرُ اختلاطَ روحي المالحةِ والعذبةِ في حياةٍ قد تبدَّلَ طعمُها... نعم، فقد اختلطَ اليمُّ بالنهرِ فَنَشَأْتُ على شاطئيهما في تَلابيبِ نفسي... مدينةُ الظلال... آواه يا ليلَ العاشقينَ ما أقساك...


الأبياتُ تتردَّدُ في رأسي من جديد...

يا أُخْتَ الْوَرْدِ وَالأسْرَار... أَنْتِ النَّدَى وَأَنَا الاشْتِيَاق...

حينَ تَلْتَقِي الأَجْيَال... تَبْقَى الْحِكَايَةُ بِلا إِنْهَاك...

خاتمي... الخاتمُ يضيءُ من جديد... يضيءُ بضوءٍ أحمرَ أرجوانيٍّ جميل... لولا هذا الخاتمُ لَظَنَنْتُ أنَّ هذا كلَّه مجردُ حلمٍ ليس إلَّا... لقد قمتُ بإنفاقِ ثروةٍ على رحلاتِ الإسكندريةَ وكأنني رحَّالةٌ في عالمِ النسيان، كلُّ هذا من أجل... من أجل أن أعرفَ... من أجل أن أفهمَ... من أنت يا آدم!!! من تكونُ!!!


"مذكرات الحارس الأول: منها بعضُ الإجاباتِ والكثيرُ من الأسئلةِ التي طالما حيَّرَتْه" رَبَّاه... هذا حالُ الحارسِ الأوَّل... فما بالي أنا!!! الحارسةُ الأخيرة... أنا فقط أملكُ الكثيرَ والكثيرَ من الأسئلة... وهذا الخاتمُ... الخاتمُ الذي يضيءُ كلَّما أوشكَ شيءٌ ما على الحدوث...


قد أرهقني التفكيرُ كثيراً، فلا بأسَ ببعضِ الطعامِ إذن، حسناً، سوفَ أتناولُ القليلَ من الطعامِ قبلَ أن أخلدَ إلى النوم، فَرُبَّمَا أرى "حُلْماً جديداً آخَر" يمحو العديدَ من علاماتِ الاستفهامِ التي شغلتِ الفراغَ حولَ رأسي وكأنني في فيلمٍ من أفلامِ الرسومِ المتحركة...


أنا لا أهتمُّ كثيراً بتفاصيلِ الطعام، فهو بالنسبةِ لي ليس سوى "قِطَعٍ من الخبزِ بينها بعضُ الأشياءِ التي تُؤْكَل". ماذا لدي في الثلاجةِ يا تُرى!!! يوجدُ لدي برجر... جُبْن... بعضُ ثمارِ الطماطمِ وزجاجتانِ من المياهِ الغازية... إذن سيكونُ عشائي مُكَوَّناً من بضعِ قِطَعٍ من الخبزِ بينها برجرٌ وجُبْنٌ وشَرَائحُ الطماطمِ والكثيرِ من المياهِ الغازيةِ وبعضِ رقائقِ البطاطسِ المقليةِ في مشهدٍ بانوراميٍّ مَنْ يُطلِقُ عليه البعضُ "كُمْبُو" أثناءَ مشاهدتي لبعضِ أخبارِ هذا الكوكبِ البائسِ على شاشةِ التلفزيون... صندوقُ الدنيا... ولْيَذْهبْ كلُّ شيءٍ آخَرَ إلى الجحيم... نعم، وكما يقولُ المثلُ المصريُّ الشهيرُ "خَرابٌ يا دُنْيا... عمارٌ يا دِماغي"...


شاشةُ التلفازِ... وَجْبَتي الكُمْبُو... وَجِهازُ التحكُّمِ عن بُعْد... مُمْمم ماذا لدينا هنا!!!

أخبار... أخبار... أخبار... كلُّها أخبارٌ بائسة... كلُّها حروب... أوشكَ هذا الكوكبُ البائسُ أن يشتعلَ... لكن... ما هذا!!! تلك القناةُ تُبَثُّ تقريراً مصوَّراً عن "الماراثون العالميّ الأوَّل للحلزونات" في إحدى الدولِ الإسكندنافية.... ها ها ها ها... وكأنه بثٌّ من كوكبٍ آخَر...


شيءٌ يدعو إلى الملل، بالإضافةِ إلى أنني قد فقدتُ شهيتيَ نهائياً للطعام... إلى النومِ إذن... لكن أين ذهبتْ شطائرُ البرجرِ الثمانيةُ التي قمتُ بإعدادها قبلَ قليل!!!! نيا ها ها ها ها... إلى النومِ إذنْ يا فَتاة... رَبَّاه!!! ما كلُّ هذا الجمال!!! ما كلُّ تلك الروعة!!! أنا في عالمٍ آخَر... في "حلم"ٍ آخَر... بل في بُعْدٍ آخَر... السماءُ غيرُ السماءِ التي أعرفها... بل هي ذاتُها لكنها بأبعادٍ أُخْرَى لم أُدْرِكْ لها مَغْزى قبلَ تلكَ اللحظة... السماءُ مكسوَّةٌ باللونِ الأزرقِ الداكنِ المائلِ إلى السواد... يا خالقَ السماوات... لم تألَفْ عينيَّ ذاك اللونَ يوماً قبلَ الآن... سماءٌ تتخللها ستائرُ تبدو وكأنها قد نُسِجَتْ من خيوطٍ فضية... سلاسلُ من الفضةِ الخالصةِ قد نُسِخَتْ بعنايةٍ خرافيَّةٍ يُحيط بها وَهَجٌ ذهبيٌّ من أشعةِ ألفِ ألفِ شمسٍ برَّاقةٍ دون حرارة... ستائرُ تحلِّقُ في الفضاءِ وكأنها أسرابٌ من طيورٍ ضخمةٍ تتجه إلى... إلى حافةِ الكونِ السرمدي...


أرى الكواكبَ بتفاصيلها بل وأكادُ أن أمدَّ يدي وألتقطها... في وسطِ تلك اللوحةِ الإلهيةِ فائقةِ الجمالِ أرى حلقاتِ زحلَ تتهادى في رقةٍ... أرى الكوكبَ الأحمرَ سابحاً في الفضاءِ مُسَبِّحاً بحمدِ الله، أرى توأمي الفضاءِ الزَّرْقاوَيْن... العملاقَ أورانوسَ وتوأمَه الأصغرَ نبتونَ يتبادلان أطرافَ الحديثِ عبر المجرَّةِ وسط الأثيرِ الممتدِّ إلى ما لا نهايةَ لا يعرفها إلا الله... وبالقربِ منهما يقعُ بلوتو... ذلك الجرمُ الفضائيُّ الصغيرُ الذي لم يُكْمِلْ ولا دورةً واحدةً حولَ الشمسِ منذ لحظةِ اكتشافِه في الثامن عشر من فبرايرَ من العامِ الثلاثينَ من القرنِ العشرين... أراه وأسمعُه وكأنه يقولُ لهما: رجاءً لا تتركاني وحيداً... أنا جزءٌ لا يتجزأُ من تلك المنظومةِ الشمسية... أنا الكوكبُ التاسع... أنا لستُ مجردَ جرمٍ مجهولٍ يطيرُ في الفضاء... سأظلُّ معكم حتى النهاية... حتى آخِرِ الزمكان...


أرى النجومَ التي قد انطلقت أضواؤها من نقاطٍ بعيدةٍ قبل مئاتِ الملايين بل وعشراتِ الملياراتِ من السنين بسرعةِ الضوءِ من أعماقِ الكون... قد أتت وارتحلَتْ عبر الفضاءِ السرمدي... قد أرسلت أضواؤها كي تُضِيءَ ليلي بالرغم من أنها قد تكونُ قد فَنِيَتْ وتلاشَتْ قبل حتى نشأةِ الكوكبِ الأزرق... كوكبِ الأرض... جاءت كي تبتسمَ لي... يا للروعة...


إني أستمتعُ بذلك العرضِ الكونيِّ المذهل... أشاهدُ المالانهاية... أرى السرمدية... أنشدُ مع الكونِ أنشودتَه... أنشودةَ الصمت... قد أضاء روحي بظلمته... أطربُ أذني بصمته... تسللت روحي إلى جنباته... تَرَقْرَقَتْ عيناي بمجراته...


أشتمُّ رائحةَ الفضاء... تغزو ذاكرتيَ أحلامٌ وأفكارٌ بل وحتى ذكرياتُ سكانِ المجراتِ البعيدة... كلُّ من سكنَ ذلك الكونِ بداخلي أنا...


أدركُ لحناً جميلاً يأتي من اللامكان... بل من كلِّ مكان... إن الكونَ يبتسمُ لي... لي أنا... بل إني أنا الكونُ ذاتَه...


يبتسمُ الكونُ من أجلي وأنا أقفُ على هذه الأرض... أرضٍ مضيئةٍ بلونٍ أسودَ فخمٍ برَّاقٍ لامع... سوادَ ذاتِ هيبة... كتلك السياراتِ الأسطوريةِ الفخمةِ التي نراها عبر الشاشات... نراها فقط...


أرضٌ قد افترشتها عباءةٌ سوداءُ جميلةٌ مُطَرَّزةٌ بملايينِ الملايينِ من الزهورِ الجوريةِ المضيئة... تماماً كبريقِ الخاتم... خاتمي... الذي أعطاني إياه آدم...


وهناك... ذلك النهر... ذلك النهرُ القريبُ البعيد... نهرٌ تتلألأ صفحته ببريقِ هذا المجالِ السرمدي فيزيدُ المشهدَ كله جمالاً فوق جمال...


يا خالقَ السماوات... لو كان هذا حلماً فليستمر إلى الأبد...


نعم، سيستمر إلى الأبد يا صغيرتي...


وكان هذا هو صوت آدم... آدم...


نعم يا صغيرتي، إنه أنا...


ما الذي يجري يا آدم!!! أخبرني بالله عليك...


قد رأيتك في حلمي...


ماذا؟!! عن أي شيء تتحدث!!!


أعني ذلك الحلم... ذلك الحلم الذي رأيته قبل أن يتم أسرِي كما قاموا بأسرِ ذلك الجني في قصة علاء الدين داخل المصباح...


لا أفهم شيئاً... لا أفهم شيئاً على الإطلاق يا آدم...


رأيتك في حلمي قبل عقدٍ ونصف من الزمان أو يزيد...


يومَ ما آتاني منادياً يخبرني أنني سوف أرحل إلى مكان بعيد...


أهرب بذاتك وبحلمك من براثن شيطان مريد...


أهرب... أنجو بروحك.. قلت لا... أنا لست جباناً رعديد...


سأكُن ذاتي... سأكُن فقط ما أريد...


قال لي... اذهب... تجهز ليوم الوعيد...


وأراني وجهك... وأخبرني إنها لك السند العتيد...


ستلتقيان ذات يومٍ قريباً بمكان بعيد...


تكن لها وطناً وتكن لك السند السديد


فاضت عيناي من الدمع وأنا أستمع إليه مجيبة:


مالي وقد رأيتك حلمي بحلمك يا آدم ويومها حسبتني مذعورة...


كم قد مرت من السنوات وأنا أشتاق إلى من يجعلني مجبورة...


قد شاهدت شيطاناً مماثلاً وظلت لسنين ستائر على أحلامي مسدولة...


فإن أضأت ليلي وداعبت فجري أكون لك طول العمر ممنونة...


وأكن لك حلماً لم يره قبلاً أحد سكان المعمورة...


صغيرتي...


نعم يا آدم...


هل تكوني لي للعمر شريكة وللدرب رفيقة!!!


أنا لك...


لم تسألي كيف ولا متى!!!


لا يهم... أنت حتى لم تسألني عن اسمي!!!


لا يهم...


لا يهم!!!


نعم، لا يهم... فقط اجعليه سراً بيننا...


إلى متى!!!


إلى أن نلتقي... يا صغيرتي...


متى!!!


حتى أعبر الجسر المعلق ما بين اليأس والرجاء.. بين الخيانة والوفاء وأعود إليك منتصراً... والآن وقبل أن أذهب... خذي هذا...


ستذهب مرة أخرى!!! إلى أين!!!


إلى هناك... حتى تفتح البوابة إلى الأبد... وتتلاشى فيما بيننا المسافات، خذي هذا رجاءً...


ما هذا يا آدم!!!


كتاب... كتاب قد خططت به الكثير والكثير، لكني لا أجد وسيلة كي أرسله إليك... إلى الطابق الرابع شقة 9


متى سوف تأتي إلي حاملاً كتابي!!!


قريباً... لا تقلقي... فالقصة لم تنته بعد...


الصباح... ضوء الشمس يغمر المكان... أنا هنا مرة أخرى أتطلع عبر نافذتي إلى النيل... وذلك الكتاب بيميني.. مخطوط بأول صفحاته...

صغيرتي... إلى أن نلتقي...


سأنتظرك يا آدم... والقصة لم تنته بعد...


أنا... أنا قاطنة ذلك البيت الواقع في الطابق الرابع شقة 9...


google-playkhamsatmostaqltradent