حلق مع هدهوديات في الفضاء السيبراني

recent
أخبار ساخنة

الطابق الرابع شقة 9 : الحارسة الاخيرة

الصفحة الرئيسية

 






مقدمة:

أيَّامٌ تَمْضِي، وَأَنَا أَعِيشُ فِي حَالَةٍ مِنَ الوُجُودِ المُزْدَوِجِ. لَمْ أَعُدْ أَعْرِفُ ذَلِكَ الجُزْءَ الخَفِيَّ مِنْ رُوحِي الَّذِي انْدَمَجَ بِغَيْرِ إِرَادَتِي بِكَيَانٍ مِنْ بُعْدٍ آخَرَ...

مُنْذُ أَنْ أَصْبَحَ بَيْتِي نُقْطَةَ التِقَاءٍ لِعَوَالِمَ أُخْرَى، وَبَابًا مَفْتُوحًا عَلَى الأَبَدِيَّةِ. مُنْذُ أَنْ أَصْبَحْتُ أَسِيرُ بَيْنَ تِلْكَ العَوَالِمِ بِأُلْفَةٍ غَرِيبَةٍ، وَكَأَنِّي أَنْتُمِي إِلَيْهَا حَتَّى مِنْ قَبْلِ بَدْءِ الخَلِيقَةِ الَّتِي اعْتَدْنَاها. وَأَنَا دَاخِلِي نِدَاءٌ أَنَّ القَدَرَ قَدْ خَطَّ لِي غَدًا جَدِيدًا... غَدًا لَمْ أَمْلِكِ القُدْرَةَ عَلَى تَغْيِيرِهِ أَوْ حَتَّى اخْتِيَارِهِ...

لَمْ أَعْتَدْ يَوْمًا عَلَى أَنْ أُدَوِّنَ يَوْمِيَّاتِي أَوْ مُذَكِّرَاتِي... لَكِنَّهُ قَدْ صَارَ مَلْتَقَى الأَكْوَانِ هَذَا شَيْئًا يَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ، لَعَلِّي أَجْمَعُ أَفْكَارِي كَمَنْ يُنْشِئُ صُورَةً مُعَقَّدَةً فِي لُعْبَةِ بَازَلٍ عِمْلَاقَةٍ... عَسَايَ أَنْ أَفْهَمَ يَوْمًا مَا... أَوْ يَأْتِيَ أَحَدُهُمْ يَقْرَأُ تِلْكَ الكَلِمَاتِ مِنْ بَعْدِي لَعَلَّهُ يُدْرِكُ مَا يَدُورُ حَوْلِي...

رُبَّمَا...

النِّدَاءُ...

قَدْ أَمْسَيْتُ عَادَتِي تَأَمُّلَ النِّيلِ لَيْلاً عَبْرَ نَافِذَتِي الوَاقِعَةِ بِالطَّابِقِ الرَّابِعِ، شَقَّةِ 9... صِرْتُ أَنَا وَالخَيَالُ صَدِيقَيْنِ لَا يَفْتَرِقَانِ... صِرْتُ أَتْرَقَّبُ رِسَالَةً مِنْ بُعْدٍ آخَرَ، لَا أَفْقَهُ، لَعَلِّي أُدْرِكَ سَيْلاً مِنَ الأَسْئِلَةِ قَدْ غَمَرَ كِيَانِي صَبْرًا...

البَدْرُ... النِّيلُ... صَفْحَةُ المَاءِ الَّتِي يَتَرَقْرَقُ عَلَيْهَا أَلْفُ بَدْرٍ وَبَدْرٍ، وَالَّتِي يُخْتَرَقُها بِنُعُومَةٍ ذَلِكَ المَرْكَبُ الَّذِي يُنَاطِحُ شِرَاعُهُ الأَيَّامَ وَالسِّنِينَ... ذَلِكَ المَرْكَبُ الخَشَبِيُّ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ بَعْضًا مِنَ النَّاسِ قَدْ بَدَأُوا أُنْشُودَةً لَيْلِيَّةً فِي قَلْبِ النِّيلِ... وَصَوْتُ المُذْيَاعِ يُصِلُنِي وَكَأَنَّهُ قَدِ انْسَابَ مَعَ الأَمْوَاجِ فِي رِقَّةٍ مُطْمَئِنَّةٍ آذَانِي...

"أَنَا إِنْ قَدَرَ الإِلَهُ مَمَاتِي... لَا تَرَى الشَّرْقَ يَرْفَعُ الرَّأْسَ بَعْدِي..."

وَكَأَنَّ أُيْقُونَةَ شَاعِرِ النِّيلِ حَافِظَ إِبْرَاهِيمَ - "مِصْرُ تَتَحَدَّثُ عَنْ نَفْسِهَا" - تَأْبَى إِلَّا أَنْ تُخْتَرَقَ المَشْهَدُ بِصَوْتِ كَوْكَبِ الشَّرْقِ أُمِّ كُلْثُومٍ...

هُنَاكَ عَلَى الشَّاطِئِ الآخَرِ مِنَ النَّهْرِ تَتَأَلَّقُ أَضْوَاءُ بَعْضِ أَعْمِدَةِ الإِنَارَةِ الخَافِتَةِ الصَّفْرَاءِ المُنِيرَةِ لِلطُّرُقِ الرِّيفِيَّةِ، تِلْكَ الَّتِي نُطْلِقُ عَلَيْهَا "السِّكَةَ الزِّرَاعِيَّةَ" أَوْ حَتَّى "الزِّرَاعِيَّةَ". أَكَادُ أَسْمَعُ تِلْكَ الأُغْنِيَةَ الَّتِي لَا أَذْكُرُ اسْمَهَا: "عَ الزِّرَاعِيَّةِ يَا رَبِّ أُقَابِلْ حَبِيبِي". بَلْ وَعَلَى النَّقِيضِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامًا، أَكَادُ أُلْمِحُ رُعْبَ الأَرْيَافِ... "النِّدَاهَةَ" مُتَسَلِّلَةً تَحْتَ ضَوْءِ البَدْرِ وَوَسْطَ الإِضَاءَةِ الصَّفْرَاءِ، مُتَرَقِّبَةً أَحَدَ شَبَابِ القَرْيَةِ العَائِدِ وَحِيدًا مِنْ حَرْثِ مَحْصُولٍ مَا، وَحِيدًا كَيْ تُنَادِيَهُ... وَتَأْخُذَهُ إِلَى عَالَمٍ آخَرَ...

وَبِمَزِيدٍ مِنَ الخَيَالِ يُمْكِنُنِي أَنْ أُشَاهِدَ ذَلِكَ المَخْلُوقَ الأُسْطُورِيَّ المُسَمَّى "المَسْحُورَ"، وَالَّذِي يَبْرُزُ مِنْ مَاءِ النِّيلِ وَيَقُومُ بِخَطْفِ أَحَدِهِمْ إِلَى الأَعْمَاقِ... بِلا عَوْدَةٍ...

الأَعْمَاقُ... أَعْمَاقُ النِّيلِ... ذَلِكَ النَّهْرُ الَّذِي خَاضَتْ مِيَاهُهُ مَعَارِكَ مَلْحَمِيَّةً فِي دَوْرَةِ المِيَاهِ الأَبَدِيَّةِ عَلَى كَوْكَبِنَا مُنْذُ بَدْءِ الخَلِيقَةِ...

تَرَى! كَمْ دَارَتْ تِلْكَ المَوْجَةُ الصَّغِيرَةُ حَوْلَ المَعْمُورَةِ! هَلْ شَهِدَتْ ذَلِكَ النَّيْزَكَ الَّذِي قَدْ أَنْهَى حَيَاةَ تِلْكَ الزَّوَاحِفِ العِمْلَاقَةِ وَالمُسَمَّى "الدِّينَاصُورَاتِ"، وَالَّتِي سَيْطَرَتْ عَلَى كَافَّةِ أَرْجَاءِ الكَوْكَبِ لِعِدَّةِ مِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ، وَقَامَ بِطْيِ صَفْحَتِهَا... إِلَى الأَبَدِ!

تَرَى، هَلْ شَارَكَتْ تِلْكَ المَوْجَةُ رَفِيقَتَهَا فِي حَمْلِ أُسْطُولِ المَلِكِ مِينَاً مِنْ مَمْلَكَةِ مِصْرَ العُلْيَا إِلَى السُّفْلَى، رَاغِبًا تَوْحِيدَهُمَا!

هَلْ كَانَ لَهَا نَصِيبٌ فِي دَفْعِ أُسْطُولِ المَلِكِ أَحْمَسَ وَرِفَاقِهِ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى طَرْدِ الهِكْسُوسِ مُنْشِدِينَ: "المَجْدُ لِكِيمِيت... الحُرِّيَّةُ لِكِيمِيت"!

هَلْ شَهِدَتْ رِجَالاً ذَوِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قَدْ أَبَوْا أَلَّا تَهْنَأَ جُيُوشُ الإِمْبَرَاطُورِيَّةِ الفَرَنْسِيَّةِ عَلَى أَرَاضِيهِمْ فِي أَوَاخِرِ القَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ وَأَوَائِلِ القَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ! وَلَمْ تَسَعْهُمُ الأَرْضُ لِمَنَازِلِهِمْ فَاسْتَحْصَنُوا بِالنِّيلِ!

كَمْ بَغَتْ دَوْلَةٌ عَلَى وَجَارَتْ... ثُمَّ زَالَتْ وَتِلْكَ عُقْبَى التَّعَدِّي...

"إِنَّنِي حُرَّةٌ كَسَرْتُ قُيُودِي... رُغْمَ أَنْفِ العِدَا وَقَطَعْتُ قَيْدِي..."

لاَ تَزَالُ كَوْكَبُ الشَّرْقِ تُشَدِّدُ عَلَى صَفْحَةِ النِّيلِ... وَكَأَنَّ النِّيلَ ذَاتَهُ يَحْكِي... يَقُصُّ... يَرْوِي...

البَدْرُ... البَدْرُ يَتَأَلَّقُ... وَكَأَنَّهُ يَرْقُبُنِي...

تَرَى! كَمْ مِنْ مُتَأَمِّلٍ لِلْبَدْرِ مِثْلِي فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ تَحْدِيدًا! هَلْ هُمَا عَاشِقَانِ فِي مَكَانٍ مَا عَلَى الضِّفَّةِ الأُخْرَى! أَمْ هُوَ ذِئْبٌ سِيبِيرِيٌّ يَتَأَمَّلُ البَدْرَ فِي بُقْعَةٍ بَعِيدَةٍ فِي الطَّرَفِ الآخَرِ مِنَ الكَوْكَبِ! يَتَأَمَّلُ البَدْرَ وَيَعْوِي... يَعْوِي بِلا انْقِطَاعٍ مُتَحَدِّيًا حُدُودَ الصَّمْتِ ذَاتِهِ... دُونَ مُجِيبٍ...

أَمْ إِنَّهُمْ أُولَئِكَ المُذْؤُوبِينَ بِتِلْكَ البُقْعَةِ فِي أُورُوبَّا الشَّرْقِيَّةِ... رُومَانِيَا... بِلَادِ المُذْؤُوبِينَ وَمَصَّاصِي الدِّمَاءِ... بِلَادُ الأَسَاطِيرِ...

ثَمَّةَ هُنَاكَ رَائِدُ فَضَاءٍ طَاعِنٌ فِي السِّنِّ يَرْقُبُ البَدْرَ دَامِعَ العَيْنَيْنِ، هَاتِفًا فِي لَهْفَةٍ تَحْمِلُ شَوْقَ الكَوْنِ كُلِّهِ: "أَلَا مِنْ عَوْدَةٍ... أَلَا مِنْ لِقَاءٍ جَدِيدٍ..."

كُلٌّ يَرَى البَدْرَ مِنْ مَنْظُورِهِ الخَاصِّ... مِنْ حَالِهِ... مِنْ كَوْنِهِ الخَاصِّ...

آوَاهْ يَا لَيْلْ...

وَعَلَى الضِّفَّةِ الأُخْرَى مِنَ النِّيلِ - جَانِبِي أَنَا - المَكَانُ يَعِجُّ بِالحَيَاةِ، يَشْتَعِلُ بِالحَرَكَةِ... أُنَاسٌ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ يَفْعَلُونَ أَوْ يَقُولُونَ أَوْ يَتَأَمَّلُونَ شَيْئًا مَا... أَوْ لَرُبَّمَا هُمْ جَرَّاءُ عَابِرِي سَبِيلٍ، وَبِرَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفُ أَلْفِ حِكَايَةٍ... أَبْعَادٌ أُخْرَى لَا أَتَخَيَّلُ وُجُودَهَا... لَكِنِّي لَا أَرَى سَوَى بَائِعِ البَطَاطَا الحُلْوَةِ ذَاكَ الَّذِي يُضْفِي عَلَى المَشْهَدِ رَائِحَةً... رَائِحَةَ الطُّفُولَةِ... يَوْمَ كُنْتُ لَا أَزَالُ أَحْمِلُ لِلدُّنْيَا هَمًّا...

"وَبُنَاةُ الأَهْرَامِ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ... كَفَوْنِي الكَلَامَ عَنِ التَّحَدِّي...
أَنَا تَاجُ العَلَاءِ فِي مَفْرِقِ الشَّرْقِ... وَدُرَّاتُهُ فَرَائِدُ عِقْدِي..."

لَا تَزَالُ أُمُّ كُلْثُومٍ تُنْشِدُ مِنْ وَسَطِ النِّيلِ رُغْمَ رَحِيلِهَا...

رَبَّاهْ... إِنَّنِي أَرَى التَّارِيخَ يَرْوِي... أَنْصِتُ إِلَى تَفَاصِيلِ الجُغْرَافْيَا تَتَحَدَّثُ... بَلْ تَتَشَكَّلُ... البَدْرُ... تِلْكَ الأَرْضُ العَنِيدَةُ الَّتِي تَأْبَى أَنْ تَسْتَسْلِمَ... أَرَى حِكَايَاتٍ وَرِوَايَاتٍ وَحَضَارَاتٍ كُلُّهَا تَخْتَصِرُ فِي مَشْهَدٍ مُذْهِلٍ وَاحِدٍ...

أَنَا... أَنَا جُزْءٌ مِنْ ذَلِكَ المَشْهَدِ... أَنَا كُلُّ ذَلِكَ... أَنَا الكَوْنُ ذَاتُهُ... وَلَا أُرَوِّعُ...

رَبَّاهْ... هَذَا مَشْهَدٌ بَانُورَامِيٌّ أُسْطُورِيٌّ! لَوْ رَآهُ أَحَدُ مُخْرِجِي السِّينَمَا لَأَطْلَقَ عَلَيْهِ "مَشْهَدٌ مِصْرِيٌّ بِامْتِيَازٍ"... لَكِنْ لَحْظَةً... أَنَا مَنْ يَمْلِكُ حُقُوقَ المِلْكِيَّةِ وَالنَّشْرِ لِذَلِكَ المَشْهَدِ... لَكِنْ لَا بَأْسَ... فَقَطْ تَكْفِينِي تَذْكِرَةٌ فِي الصُّفُوفِ المُخَصَّصَةِ لِكِبَارِ الزُّوَّارِ يَوْمَ العَرْضِ الخَاصِّ لِذَلِكَ الفِيلمِ الَّذِي لَمْ يُشْرِعْ أَحَدُهُمْ فِي كِتَابَةِ مَشَاهِدِهِ بَعْدُ... فِيلمٌ لَمْ وَلَنْ يَنْتَهِي... لَنْ يَنْتَهِيَ أَبَدًا طَالَمَا ظَلَّتِ الدُّنْيَا...

"وَقَفَ الخَلْقُ يَنْظُرُونَ جَمِيعًا... كَيْفَ أَبْنِي قَوَاعِدَ المَجْدِ وَحْدِي..."

وَكَأَنَّ القَدَرَ قَدْ سَمِعَهَا وَأَنْصَتَ إِلَيْهَا...

الخَاتَمُ... الخَاتَمُ يُضِيءُ فِي إِصْبَعِي مِنْ جَدِيدٍ، وَكَأَنَّهُ يَأْبَى أَنْ يُفَارِقَهُ يَوْمًا. الخَاتَمُ يُضِيءُ بِلَوْنٍ قِرْمِزِيٍّ جَمِيلٍ، وَكَأَنَّهُ يُخْبِرُنِي بِأَنَّهُ قَدْ حَانَ الوَقْتُ مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ مَا... شَيْءٍ آخَرَ جَدِيدٍ...

أَنْظُرُ خَلْفِي فَأُلْمِحُ تِلْكَ الوَرْدَةَ... الوَرْدَةَ الجُورِيَّةَ، وَكَأَنَّهَا تَدْعُونِي إِلَى... إِلَى فَتْحِ ذَلِكَ الكِتَابِ... الخَاتَمُ وَالوَرْدَةُ وَالكِتَابُ... الَّذِينَ حَصَلْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ... مِنْ حُلْمٍ... مِنْ بُعْدٍ آخَرَ... بِرَأْسِي مَدِينَةٌ شَوَارِعُهَا قَدْ غَزَتْهَا التَّسَاؤُلَاتُ...

وَفِي نَفْسِي يَتَرَدَّدُ ذَلِكَ الصَّوْتُ:

"الْخَاتِمَةُ، وَلَكِنْ مَاذَا بَعْدَ الْخَاتِمَة؟ أَنْتِ...
"لَا أَدْرِي... هَلْ يُوجَدُ بَعْدٌ لِهَذِهِ الْقِصَّة؟"
"الْقِصَّةُ لَا تَنْتَهِي، بَلْ تَتَحَوَّلُ. أَنْتِ الْآنَ أَقْوَى مِمَّا تَتَخَيَّلِينَ. لَقَدْ وَحَّدْتِ الْحُبَّ وَالتَّضْحِيَة، وَهَذَا مَا يَجْعَلُكِ قَادِرَةً عَلَى خَلْقِ عَالَمٍ جَدِيد..."

قَدْ حَانَ الوَقْتُ كَيْ أُطَالِعَ صَفَحَاتِ ذَلِكَ الكِتَابِ...

فَلْيَكُنْ...

الكِتَابُ...

كِتَابٌ عَتِيقٌ، لَكِنْ لَيْسَ إِلَى ذَلِكَ الحَدِّ الَّذِي يُحِيلُ الصَّفَحَاتِ إِلَى رَقَائِقَ صَفْرَاءَ اللَّوْنِ. لَيْسَ ذَلِكَ القِدَمَ الَّذِي كَانَتْ تَشْغَلُ فِيهِ الطَّلَاسِمُ صَفَحَاتِ الكُتُبِ. وَالحَمْدُ لِلَّهِ فَأَنَا لَسْتُ مَخْلُوقَةً لِلتَّعَامُلِ مَعَ أَيِّ شَيْءٍ قَادِرٍ عَلَى إِخَافَةِ قِطَّةٍ صَغِيرَةٍ! حَتَّى تَلْهُوَ بِبَرَاءَةٍ فِي الشَّارِعِ فَتَكْشِفَ أَنَّ أَشَرَّ سُكَّانِ هَذَا الكَوْكَبِ عَلَى الإِطْلَاقِ هُمُ البَشَرُ! عِنْدَمَا يَبْدَأُ ذَلِكَ الطِّفْلُ البَائِسُ ذُو المُخَاطِ المُتَّدَلِّي مِنْ فَتْحَةِ أَنْفِهِ اليُسْرَى بِمُضَايَقَتِهَا وَشَدِّ ذَيْلِهَا دُونَ سَبَبٍ وَاضِحٍ! أَوْ لَعَلَّهُ قَارَنَ بَيْنَ شَارِبِهَا الجَمِيلِ وَشَارِبِهِ المُخَاطِيِّ، فَقَرَّرَ أَنَّهُ يَجِبُ الاِنْتِقَامُ مِنْهَا بِلا رَحْمَةٍ لِأَنَّهَا فَقَطْ أَجْمَلُ مِنْهُ! لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الطِّفْلَ ذَا المُخَاطِ المُتَّدَلِّي سَ يُصْبِحُ سَفَّاحًا قَبْلَ حُلُولِ عَامِهِ الرَّابِعَ عَشَرَ عَلَى الأَرْجَحِ... نِيَاهَاهَاهَاهَا... وَالآنَ يَا فَتَاةُ، مَاذَا لَدَيْنَا هُنَا يَا تُرَى!!!!

غِلَافٌ قِرْمِزِيُّ اللَّوْنِ. طَفِقَتْ تَلَامِسُهُ أَنَامِلِي بِكُلِّ شَغَفٍ... يَبْدُو مَلْمَسُهُ غَرِيبًا بَعْضَ الشَّيْءِ... يَبْدُو كَمَزِيجٍ مِنَ المَلْمَسِ الجِلْدِيِّ المُطَعَّمِ بِالقَطِيفَةِ... يُمْكِنُكِ أَنْ تَتَخَيَّلِي ذَلِكَ المَلْمَسَ العَجِيبِ كَمَذَاقِ طَبَقٍ مِنَ الأُرُزِ المَحْشُوِّ بِقِطَعِ المَانْجُو... يَا لَلتَّشْبِيهِ الَّذِي أَضْفَى غَرَابَةً أُخْرَى عَلَى الوَصْفِ الأَصْلِيِّ! لَكِنْ لَا بَأْسَ.... لَا بَأْسَ عَلَى الإِطْلَاقِ، فَخَيَالِي يَزْدَادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَصْبَحَ غَرِيبًا مُنْذُ بَدْءِ تِلْكَ "الأَحْلَامِ"... أَمْ إِنَّ الوَاقِعَ نَفْسَهُ قَدْ صَارَ غَرِيبًا!!! يَكْفِي أَنْ أَصِفَ أَنَّهُ مَلْمَسٌ مِنْ بُعْدٍ آخَرَ...

وَبَيْنَمَا تُدَاعِبُ أَنَامِلِي سَطْحَ الغِلَافِ، صِرْتُ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مَا يَتَكَوَّنُ، شَيْءٍ مَا يَتَشَكَّلُ... تَحْتَ أَنَامِلِي...

هُنَاكَ... فِي مُنْتَصَفِ الغِلَافِ، أَخَذَتْ وَرْدَةٌ ثُلَاثِيَّةُ الأَبْعَادِ تَتَشَكَّلُ تَحْتَ أَنَامِلِي... وَرْدَةٌ جُورِيَّةٌ... جُورِيَّةٌ ذَاتُ دَرَجَةِ لَوْنٍ مُخْتَلِفَةٍ مُمَيِّزَةٍ عَنْ سَائِرِ الغِلَافِ القِرْمِزِيِّ... وَمِنْ حَوْلِهَا تَتَشَكَّلُ دَائِرَةٌ مُحِيطَةٌ، خَالِقَةً لَهَا أَبْعَادًا أُخْرَى، وَكَأَنَّهَا تَضَعُ المَزِيدَ وَالمَزِيدَ مِنْ عَلَامَاتِ الاِسْتِفْهَامِ! وَكَأَنَّ مَا فَاتَ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا!!!

وَاليَآنَ، فَلْأَقُمْ بِفَتْحِ الكِتَابِ... مَاذَا لَدَيْنَا!!!!

هُنَاكَ فِي تِلْكَ الصَّفْحَةِ عَلَى اليَمِينِ، وَالَّتِي هِيَ ظَهْرُ الغِلَافِ، هُنَاكَ عِبَارَةٌ تَتَشَكَّلُ أَمَامَ عَيْنَيَّ مِنْ وَسْطِ صَفْحَةٍ كَانَتْ حَتَّى بِضْعَةِ ثَوَانٍ مَضَتْ كَمَدِينَةٍ خَوَاءً عَلَى عُرُوشِهَا...

"لَوْ تَحَلَّى بَنُو آدَمَ  بالصبر مَا شَقُوا...
وَلَوْ أَدْرَكُوا قِيمَةَ الكَلِمَةِ مَا هَانُوا...
وَلَوْ صَمَدُوا حَتَّى النِّهَايَةِ مَا سَأَلُوا..
وَلَوْ أَدْرَكُوا أَعْمَاقَ أَنْفُسِهِمْ مَا اسْتَكَانُوا...
لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ قَدْ شَقُوا وَهَانُوا وَسَأَلُوا وَاسْتَكَانُوا...
وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ لَنْ يَشْقُوا وَلَنْ يَهُونُوا وَلَنْ يَسْأَلُوا وَلَنْ يَسْتَكِينُوا...
أُولَئِكَ الَّذِينَ قَرَّرُوا الاِنْضِمَامَ إِلَى ذَرَّاتِ الكَوْنِ ذَاتِهِ...
الَّذِينَ قَدْ تَجَرَّأُوا وَاسْتَحْضَرُوا الخَيَالَ وَتَغَنَّوْا بِأَبْيَاتِهِ...
لِأُولَئِكَ فَقَطْ يُمْنَحُ المُحَالُ آفَاقَهُ...
وَمُنْذُ الأَزَلِ ظَلَّ لَهُمُ البُعْدُ فَاتِحًا أَبْوَابَهُ...
بُعْدٌ، ظَلَّ لَهُ الحُرَّاسُ طُولَ الزَّمَانِ حَافِظِي أَسْرَارِهِ."

يَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ! مَا هَذَا!!! مَا ذَلِكَ البُعْدُ!!! مَنْ هَؤُلَاءِ الحُرَّاسُ!!! هَلْ أَنْتُمِي إِلَيْهِم!!!

الخَاتَمُ... الخَاتَمُ يَتَأَلَّقُ مِنْ جَدِيدٍ... اللَّوْنُ القِرْمِزِيُّ يَتَوَهَّجُ مِنْ جَدِيدٍ... الصَّفْحَةُ التَّالِيَةُ... أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَدْعُونِي إِلَى الاِنْتِقَالِ إِلَى الصَّفْحَةِ الثَّانِيَةِ... إِنَّهَا خَوَاءٌ.... لَكِنَّهَا أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى كَسَابِقَتِهَا، تَتَشَكَّلُ عَلَيْهَا الأَحْرُفُ وَالعِبَارَاتُ مِنَ العَدَمِ... وَالآنَ.... مَاذَا لَدَيْنَا هُنَا!!!!

النُّبُوءَةُ الأُولَى: الحَارِسَةُ الأَخِيرَةُ

"قَدِ ارْتَحَلَتْ رُوحُهَا قَبْلَ مَوْلِدِهَا مِنَ الأَعْوَامِ أَرْبَعِينَ...
وَكَانَ لِقَاءُ أَوَّلٍ قَبْلَ البَدْرِ الثَّانِي بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ...
وَلَمْ يَكُنْ لِيُفْتَحَ لَهَا الكِتَابُ قَبْلَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَازْدِرَاءِ عِشْرِينَ...
إِنْ لَمْ تَجِدْهُ قَبْلَ ثَلَاثَةٍ ضَاعَ هُنَاكَ مَرَّةً أُخْرَى لِأَرْبَعِينَ...
مِنَ النَّهْرِ إِلَى البَحْرِ سَيُدْرِكُهَا اليَقِينُ...
وَتَتَحَرَّرَ ظِلَالٌ وَتُرَاضِيهَا السِّنُونَ...
قَدْ أَجَابَهَا اللَّيْلُ بَعْدَ صَبْرٍ، قَدِ اخْتَارَ القَدَرُ لَكِ أَنْ تَفْرَحِينَ...
بَشِّرِي مِنَ الرَّحْمَنِ وَهُوَ الحَقُّ المُبِينُ."

يَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ! أَنَا الحَارِسَةُ الأَخِيرَةُ!!! مَنْ خَطَّ لِي هَذَا الكِتَابَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ!!!

الخَاتَمُ... الخَاتَمُ يَتَوَهَّجُ مِنْ جَدِيدٍ...

إِذًا إِنَّهَا الصَّفْحَةُ التَّالِيَةُ...

إِنَّهَا خَوَاءٌ كَالعَادَةِ، لَكِنَّهَا تَتَشَكَّلُ مِنْ جَدِيدٍ... لَيْسَتْ أَحْرُفًا أَوْ كَلِمَاتٍ...

إِنَّهَا.... رَبَّاهْ... إِنَّهَا تِلْكَ الفِيلَا الَّتِي رَأَيْتُهَا فِي "حُلْمِي الأَوَّلِ"...

الآنَ قَدْ فَهِمْتُ...

عَلَى العَوْدَةِ إِلَى الإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَرَّةً أُخْرَى... قَدْ مَرَّ شَهْرٌ مِنَ الزَّمَانِ عَلَى الرِّحْلَةِ الأُولَى وَاللِّقَاءِ الأَوَّلِ... وَيَبْقَى فَقَطْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ آدَمُ مَرَّةً أُخْرَىَ لِمُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً...

ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ... فَقَطْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ... وَلَا أَمْلِكُ الكَثِيرَ لِأَعْرِفَهُ... سِوَى... سِوَى تَوَهُّجِ الخَاتَمِ وَكِتَابٍ تَتَكَوَّنُ رَسَائِلُهُ صَفْحَةً بِصَفْحَةٍ حَتَّى الخُطْوَةِ التَّالِيَةِ...

فَلْيَكُنْ...

أَنَا الحَارِسَةُ الأَخِيرَةُ...

إِلَى الإِسْكَنْدَرِيَّةِ...

وَلَكِنْ... لِذَلِكَ قِصَّةٌ أُخْرَى...

وَالقِصَّةُ لَمْ تَنْتَهِ بَعْدُ...

 


google-playkhamsatmostaqltradent